الدول العربية تعترف بقصور نظامها التعليمي الذي تسميه خطأ بالتربوي، حيث عجزت هذه الدول عن التخلي عن أسلوب التلقين والأفكار المعلبة الجاهزة، وهو أمر طبيعي في الأنظمة المحافظة. ثم زادت الطين بلّة هيمنة الفكر الديني على المجتمع وخضوع الدولة الاختياري له، وسيطرة هذا الفكر على واضعي المناهج حتى أصبح الدين مهيمناً على المواد الدراسية وليس فقط المواد الدينية. وتوسعت الدولة في محاباتها للتيار الديني فازداد عدد المعاهد الدينية وتأسست كليات وجامعات دينية، واليوم يواجه العالم العربي أزمة تعليم حقيقية، ونظم سياسية عاجزة عن حل هذه الأزمة بسبب خضوعها للفكر الديني. ما هو الحل؟
لكل شيء أسس، وأساس التعليم العقل والحرية، والأسلوب التلقيني في التعليم يخلو من الاثنين. وما لم يستعد العقل والحرية مكانتيهما في الفلسفة التعليمية، فكل الوسائل المتبعة لتحسين المناهج التعليمية لا قيمة لها، وكل جهد ضائع، وكل نفقات تنفق في هذا المجال ليست سوى تضييع للأموال فيما لا طائل من ورائه. وقد حان الوقت لكي يوضع الحصان أمام العربة حتى تتمكن العربة من المسير، والحل يكمن في تدخل منظمة اليونسكو العالمية لتعديل مسار المناهج من خلال خطة تعليمية تربوية يحددها أهل العلم لا أهل الدين، وأهل العقل الحر، لا أصحاب العقل الجامد. وتدخّل منظمة اليونسكو ليس بدعة، بل إن المنظمة تدخلت في المناهج التعليمية العراقية يوم كانت هذه المناهج تعلّم الطفل العراقي أن الكويت ليست دولة بل محافظة عراقية. ولا شك أن منظمة عالمية مثل اليونسكو تقوم بدور فعّال في تطوير المناهج الدراسية لكثير من دول العالم النائمة وليس النامية، لأنها توقفت عن النمو منذ زمن، لما فيه مصلحة هذه الدول ذلك أن التعليم عبء علمي وتربوي تعجز كثير من الدول عن القيام به.
الواقع القائم اليوم يثبت أن الدول العربية عاجزة عن تطوير مناهجها التعليمية والتربوية، وأن هذه المناهج تساهم -حتى ولو بدون قصد- في بند الفكر المتطرف من خلال مفاهيم لا علاقة لها بالواقع مثل جهاد الكفار والتكفير والتصورات الخاصة عن المرأة وغير المسلم بشكل عام، وأن ضغوط الجماعات الدينية في كل بلد تحول دون تطوير هذه المناهج نحو الأفضل إنسانياً بحجة الثوابت الدينية. ويكفي أن نشير إلى الموقف السلبي من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومفاهيم الديمقراطية في هذه المناهج، وكذلك دور المرأة في المجتمع. لهذه الأسباب، وإزاء هذا العجز الذاتي سواء في الفكر أو العمل، لابد من تدخل مؤسسة اليونسكو التي أنشئت أصلاً للاهتمام بالتعليم على مستوى العالم.
إن عصر العولمة الذي يحاربه الفكر الديني من خلال جهود الجماعات الدينية المعارضة للعولمة، التي تتعارض مع مفاهيمها الاستبدادية، يفرض الحاجة إلى تعليم عالمي يركز على حقوق الإنسان والتفكير الحر والمفاهيم الديمقراطية والنظرة الإيجابية للمرأة، كما أن أجيال الشباب والأطفال القادمة بحاجة إلى شيوع ثقافة التسامح الإنساني والفكر الليبرالي عموماً بعد أن ثبت عملياً وفكرياً أنه الفكر الإنساني الوحيد القادر على الأخذ بيد الإنسان المعاصر نحو الحرية والكرامة وسيادة العقل. هذا النوع من التعليم العالمي يحتاجه العالم اليوم، وعلى الأمم المتحدة أن تشجع مالياً وأدبياً إقامة ورش عمل بإشراف منظمة اليونسكو لتدريب المعلمين والمسؤولين في وزارات التربية، سواء في العمل الإداري أو في لجان وضع المناهج على كيفية نقل هذه المعلومات للطفل منذ المراحل الأولى من خلال مناهج تقوم هذه المنظمة بتحديد أسسها وتنظيمها معلوماتياً وكيفية تدريسها، إضافة إلى مراقبة الدول التي تطبق هذه المناهج التربوية، وإلزامها بجعل مناهجها جميعاً -حتى الدينية- متساوقة مع هذا المنهج الجديد.
هذا هو الحل الوحيد المتاح عملياً اليوم لتعديل مسار التعليم المعوج، الذي خرج عن نطاق التعليم إلى الأيديولوجية الدينية، ومن التفكير الحر نسبياً والذي كان سائداً في الخمسينيات والستينيات إلى التفكير الديني الجامد والمنغلق، وهو الحل الوحيد لكثير مما نعانيه كمسلمين من تخلف على نطاق واسع ليس في التعليم فقط، بل وفي فهم الحياة والتعامل مع الآخر.