أمضيت بعضاً من إجازتي في الوطن، حرصت خلالها أن أحضر صالونات ومنتديات جدة التي تجمع المثقفين ورجال الأعمال وموظفي الحكومة، وهي لمن لا يعرفها من القراء غير السعوديين بمثابة صالونات حوارية مفتوحة، تحولت إلى مقياس لنبض الرأي العام السعودي، تتبادل فيها الأخبار والشائعات أيضا، والكثير من التحليلات والتوقعات والآمال. إنها مصدر جيد للمعلومات ولكن الحكمة تقول ألا يُبني عليها وحدها قرار، ولا يُتخذ بعدها أمر بيع أو شراء، إنها مثل أندية النخب "اللندنية" التي يجتمع أعضاؤها فيها بعد يوم عمل للترويح واللقاءات غير الرسمية وإنْ كانت صالونات السعودية أكثر انفتاحا فلا تحتاج إلى عضوية أو تزكية كي تشارك فيها، وأقل تكلفاً ورسمية ويُكتفى فيها بالشاي والقهوة ولا بأس بـ"الشيشة" والأرجيلة.
بالطبع كان الأسبوع الأخير مثيراً في المملكة، فالبلاد ودعت ملكاً عزيزاً وبايعت ملكا قويا، استُقبل بجملة من التوقعات والآمال، فالسعودي متفائل، طموح، ينظر إلى الماضي وما تحقق فيه، فيشكر ويحمد مع الكثير من "لو فعلنا كذا أو كذا لكان أفضل" وإلى المستقبل، فيطلب المزيد، إنه يعرف ما يحصل ويتحقق في العالم من حوله، ما يرفع من سقف طموحاته وطلباته، متعلم متحمس، فيريد أن يشارك ويكون له دور، يعرف ما يجري في وطنه، فبلاده ليست بالمغلقة عليه، وحكومته غير مغرقة في السرية، بل إن رجالها وحتى قياداتها يرتادون هذه المجالس ويتباسطون ويتبادلون الرأي ويتفقون ويختلفون مع الحضور في شفافية الأمر الذي يفتح الشهية إلى المزيد من المشاركة والطموح نحو الأفضل.
السمة التي وجدتها في مختلف الصالونات هي التفاؤل، وإنه ما من بلد في هذا العالم الثالث الذي من المفيد أن نتواضع ونعترف بالانتماء إليه تتوفر فيه فرصة لنهضة ورخاء مثلما تتوفر في بلادنا، فالمملكة تصب في خزائنها كل يوم مئات الملايين من الدولارات يوميا بفضل أسعار النفط التي بلغت الأسبوع الماضي رقما قياسيا هو 65 دولاراً للبرميل والجميع يتوقع أكثر، والاستقرار في أجلى صوره عززه التحول السلس في القيادة والتماسك بينها وبين كل الشعب بمختلف أطيافه وألوانه، والحضور يختار ما يشاء من وعود الإصلاح وخططه ويضعها في قمة أولوياته، وهي الأفكار التي راجت في المملكة خلال الأعوام القليلة الماضية والتي شهدت تفاعلاً بين القيادة والنخب المثقفة حتى بدا الأمر كأنه تنافس في خير.
عزز هذا التفاؤل إطلاق سراح من اتفق على تسميتهم بالإصلاحيين وكل الوطن بات متعلقا بالإصلاح إلا من أبى، ولكن الحديث هنا عن المثقفين الثلاثة، الذين اختلفت مشاربهم وجمعهم مثلما جمع كل الوطن روح الترقي والطموح للأفضل، وكأن خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله لا يريد أن يكتفي برسالة العفو وإطلاق السراح، بل استقبلهم مع جمع من المواطنين، فبايعوه في مكة المكرمة بصدق، فخصهم بوقت واهتمام، فشُدت أيادٍ، وتُبودلت كلمات طيبة، أكدت أن الثقة قائمة والإصلاح همٌ مشترك. رأيت هؤلاء الإصلاحيين الخارجين من السجن يجولون المجالس والمنتديات بكل حرية ليكونوا محل الحفاوة حيث ما حلوا، لا يتتبعهم رجال مباحث ولا ترتج الكلمات منهم تتخوف من مسترق للسمع، وإنما يخاطبون المحتفين بهم بكل اطمئنان، لا يخفون سراً ولا يبطنون هوى، تجدهم حريصين على وحدة الصف وعدم المغالاة يرفضون البطولات المزعومة. هذا التوافق يطمئن إلى أن مسيرة الإصلاح لن تخرج عن مسارها الصحيح ولن تؤثر في الاستقرار الذي يميز المملكة بل ستعززه. عندما رأيت الأساتذة علي الدميني ومتروك الفالح وعبد الرحمن اللاحم لم يبدُ لنا هؤلاء الخارجون من سجن خارج السياق وإنما في قلبه.
ولكن وسط التفاؤل توجد مشاعر قلق، فالمطلوب كثير، والعالم من حولنا سريع الخطى ولا ينتظر، ويوجد شعور بأننا تأخرنا كثيراً فتراكمت تبعات التأخير، نظام تعليمي متواضع القدرات يشله تنازع الرؤى، فما يصلحه المصلحون يفرغ محتواه المتوجسون، بينما تقذف الأرحام بمزيد من الأبناء والبنات المستوجب استيعابهم في هذا الخضم، والنتيجة جامعات عاجزة عن الاستقبال، ومن تستقبله تعلمه بطريقة "الكلفتة"، فهو عاجز عن تلقي التعليم العالي، وهم عاجزون عن إعادة تأهيله من جديد، فيُقذف به في سوق العمل يحمل ملفاً أخضر، ويشكو الجميع، ويحملهم وزره ابتداء من الدولة إلى الأجنبي إلى القطاع الخاص... موضوع ممل لا تمل المجالس من لوكه.
أما النظام القضائي فكل له قصة، بعضها طريف وبعضها مأساوي وجلها يجمع الأمرين معا، مصالح معطلة ومزاجية تحكم، كل ذلك بينما يتحدث الجميع عن وجود نظام جديد للقضاء أشبع بحثا ما بين مجلس الشورى ووزارة العدل، ولكن لا زال ينتظر. أما المعنيون في وزارة العدل أو مجلس القضاء الأعلى، فلا تهمهم أسئلة السائلين ولا شكوى الشاكين.
ويسهر الساهرون في صالونات جدة ومنتدياتها، يتحدثون عن البطالة وتحديات السعودة، والعمالة الأجنبية ومشكلاتها، ومشكلة الصرف الصحي في جدة، وتعاظم البيروقراطية وتبعات الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، وخطر الإرهاب،