خلال الأيام القليلة القادمة ستقوم قوات جيش الدفاع الإسرائيلي - كما هو مقرر- بإجلاء القسم الأخير من المستوطنين الإسرائيليين البالغ عددهم 8500 مستوطن من قطاع غزة، مع تفكيك ما تبقى من المستوطنات التي كانوا يقيمون فيها ثم مغادرة القطاع بعد ذلك. والسؤال: كيف سيكون شكل الحياة بعد الانسحاب الإسرائيلي بالنسبة لسكان القطاع الفلسطينيين الذين يصل تعدادهم إلى 1.38 مليون نسمة؟
أحد التنبؤات هو أن سكان القطاع سيشعرون بفرحة طاغية لقدرتهم على السفر على امتداد القطاع دون الاضطرار للمرور على نقاط التفتيش العسكرية الإسرائيلية البغيضة، ولقدرتهم كذلك على الوصول إلى المناطق الساحلية التي حرموا منها طويلا.
وكان القادة الفلسطينيون كثيرا ما يتنبؤون بأن غزة يمكن بمجرد تحررها من الاحتلال الإسرائيلي الذي استمر لما يزيد على 38 عاما أن تتحول إلى شيء شبيه بـ"سنغافورة". ولكن الحقيقة هي أن هذا الأمر يبدو غير محتمل تماما الآن لثلاثة أسباب هي، أولا: أن الجلاء الإسرائيلي الموعود عن القطاع وعن أربع مستوطنات إسرائيلية صغيره في الضفة الغربية، لا يمثل بأي حال من الأحوال حلاً نهائيا لصراع إسرائيل الطويل مع الفلسطينيين، خصوصا وأن مساحة غزة لا تمثل سوى 5.8 في المئة من إجمالي الأراضي التي يطالب بها الفلسطينيون الآن. وفي غياب سلام ينشأ عن حل نهائي، فإنه من غير المحتمل، على الإطلاق، أن تنعم غزة التي تعتبر معقلا من معاقل الوطنية الفلسطينية، بالهدوء.
ثانياً: إن إسرائيل تخطط للاحتفاظ - حتى بعد انسحابها من غزة- بنقاط التفتيش التجارية الرئيسية بين غزة والدولة العبرية، بل وبين غزة والعالم الخارجي، مما يجعل القطاع أبعد ما يكون عن الاستقلال الاقتصادي الذي أتاح لسنغافورة فرصة الازدهار. علاوة على ذلك فإن إسرائيل تخطط للاحتفاظ في غزة بنفس وسائل المراقبة التي احتفظت بها جنوب أفريقيا العنصرية على "الكانتونات" التي حبست السود بداخلها، وهو الأمر الذي يمكن، في الحالة الفلسطينية، أن يؤدي إلى مضاعفة حالات الاحتكاك بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
ثالثا: إن السياسات الداخلية الفلسطينية لا تزال في حالة سيولة، فعلى الرغم من أن الرئيس الفلسطيني العلماني المعتدل محمود عباس قد حقق نصرا انتخابيا كبيرا في شهر يناير الماضي، إلا أنه قام في مواجهة ظروف عدم اليقين السياسي والدبلوماسي التي واجهها، بتأجيل الانتخابات التشريعية التي كان مقررا إجراؤها الشهر الماضي إلى يناير القادم، وهي الانتخابات التي يتوقع أن تبلي فيها منظمة حماس الإسلامية بلاء حسنا.
وقد جاء ذكر انسحاب إسرائيل من قطاع غزة لأول مرة في خطاب ألقاه رئيس وزرائها آرييل شارون في ديسمبر من عام 2003، وذلك عندما اقترح "فك الاشتباك" مع القطاع كبديل عن "خريطة الطريق" المقترحة من قبل الرئيس بوش عام 2002. وخطة شارون تختلف عن خريطة الطريق في نقطتين رئيسيتين هما: أنها تسعى إلى انسحاب قوات جيش الدفاع الإسرائيلي من غزة فقط مع عدم تقديم وعد بسحب تلك القوات من باقي الضفة الغربية. النقطة الثانية هي أن تلك الخطة أحادية تماما حيث إن إسرائيل لم تلزم نفسها بالتفاوض حول تفاصيل انسحابها سواء مع الفلسطينيين أو مع الأميركيين أو مع أي دولة من الدول الثلاث الأخرى التي تشكل – بالإضافة إلى الولايات المتحدة- الدول الراعية لخطة "خريطة الطريق".
ومنذ ديسمبر 2003 عندما أعلن شارون عن خطة الانسحاب من غزة، تمكن رئيس الوزراء الإسرائيلي ومن خلال جهود دبلوماسية مدهشة من كسب رضاء كافة القوى العالمية الكبرى على خطته الجزئية والديكتاتورية في الوقت ذاته، في الوقت الذي واصلت فيه حكومته تعزيز قبضتها على مساحات كبيرة من الأراضي الفلسطينية وعلى سكانها الفلسطينيين. ففي هذا الإطار واصلت الحكومة الإسرائيلية بناء الجدار الفاصل الضخم الذي يتعدى على الأراضي الفلسطينية في الضفة، كما قامت ببناء مساكن وتسهيلات أخرى للمستوطنين الإسرائيليين الجدد في كافة أنحائها بما في ذلك المناطق الواقعة داخل وحول القدس وهي مدينة لها من القداسة بالنسبة للفلسطينيين وللمسلمين في كافة أنحاء العالم مثلما لها من القداسة بالنسبة للإسرائيليين واليهود.
وعلى الصعيد الدبلوماسي واصلت حكومة شارون وبشكل مطرد رفضها للدخول مجددا في أية مناقشات بخصوص المسائل المتعلقة بما يعرف بالحل النهائي والتي تشمل وضع القدس، والحدود الدائمة وحق العودة لأربعة ملايين لاجئ فلسطيني يقيمون في الشتات. وهذه التصرفات الإسرائيلية ساهمت وبشكل خطير في تقويض قدرة الفلسطينيين على إقامة دولة مستقلة وقادرة على الحياة تعيش جنبا إلى جنب مع إسرائيل في أي وقت في المستقبل المنظور.
ويذكر أن إسرائيل قد قامت بتلك التصرفات في فترة حصلت خلالها على دعم مالي ضخم من قبل الولايات المتحدة، وبغياب أي عمل من جانبها – أميركا- لإبقاء احتمال إنشاء دولة فلسطينية قادرة على الحياة قائما. وقد نجح المسلحون من المستوطنين الإسرائيليين في جذب أنظار العالم، و