بدأت مشاعر القلق تتصاعد في الولايات المتحدة الأميركية حول الورطة العراقية. وليس الموضوع متعلقاً فقط بالأسلوب الذي تعاملت به إدارة بوش مع الحرب، بل في الدور المفترض الذي يتعين على العراق لعبه لدعم رؤية الرئيس بوش حول الشرق الأوسط. والمشكلة بالنسبة لبوش ليست في أن الحرب حادت عن طريقها المرسوم، بل في عجزه عن إسباغ المزيد من المشروعية عليها وتزيينها في أعين الأميركيين. والنتيجة أن العديد من أفراد الشعب فقدوا ثقتهم في الإدارة وقدرتها على إيجاد مخرج ناجح لتلك الورطة. وهذا ما تشير إليه استطلاعات الرأي التي أجريت مؤخرا حيث أشارت إلى أن ثلثي الجمهور غير راض عن أسلوب معالجة بوش للحرب، فضلا عن أن نسبة عالية من الأميركيين باتت تعتقد بأن الحرب ما كان يجب أن تخاض أصلا.
ولا شك أن فقدان الثقة في الإدارة الأميركية أمر يدعو إلى الدهشة والقلق معاً. فقد كان مفترضاً بالحرب في العراق أن تنحو منحا مغايراً تماماً. وحتى بعدما تبين أن التبريرات التي ساقتها الإدارة لشن الحرب على العراق واهية، وبعدما استحال سراباً ذلك السيناريو المرسوم في الأذهان حيث الورود مفروشة أمام القوات الأميركية، وربيع الديمقراطية مزهر في عموم الشرق الأوسط، ظل الأميركيون مع ذلك يساندون المجهود الحربي.
وهكذا ومع كل كبوة نجحت الإدارة في إيجاد مبررات جديدة للحرب وإعادة تعريف معنى النصر معتمدة في ذلك على وسائل إعلام طيعة، وحزب ديمقراطي ضعيف. وطيلة سنتين من الزمن بدا وكأن بوش قادر بالفعل على المحافظة على تماسك الجبهة الداخلية. لكن ليس طويلا.
ففي الوقت الذي يستمر فيه المسؤولون الرسميون في بذل الجهود الحثيثة للتخفيف من وطأة الأنباء السيئة المتسربة من العراق وإضفاء مظهر جيد على الحرب، أصبح واضحا بالنسبة للعديد من الأميركيين أن الحرب ليست على ما يرام. وبالرغم من أن الإدارة الأميركية حاولت طيلة المدة السابقة حجب صور الدم والفوضى في العراق والتركيز على نجاح العملية السياسية من تشكيل للحكومة وإجراء للانتخابات، فإنه حتى العملية السياسية بدأ يلفها الكثير من الشك. وها نحن بعد أن حان وقت الانتهاء من صياغة الدستور، مازالت تحفل الساحة الإعلامية بتقارير حول الصراعات الداخلية بين الطوائف المختلفة حول القضايا الخلافية كتطبيق الشريعة الإسلامية وما إلى ذلك من قضايا شائكة أصبحت الموضوع اليومي لوسائل الإعلام بجانب أنباء التفجيرات والاغتيالات، فضلا عن فشل العمليات العسكرية في القضاء على المتمردين. والنتيجة هي فقدان الثقة في الإدارة الأميركية وتنامي النقاش في أوساط "الديمقراطيين" و"الجمهوريين" حول مدى فاعلية استراتيجية بوش في هذه الحرب.
وللخروج من أزمة الثقة التي وقعت فيها الإدارة الأميركية قامت باقتراح حل من شطرين. فمن جهة قامت الإدارة بمضاعفة ضغوطها على القيادة العراقية المنتخبة لإنهاء كتابة الدستور في الموعد المحدد له في شهر أغسطس وتقديم وثيقة مقبولة للشعب الأميركي كإنجاز حققته الإدارة. ومن جهة أخرى قامت الإدارة بالتلاعب بمسألة سحب القوات الأميركية من العراق. ففي الوقت الذي أعلن فيه المسؤولون عزمهم البدء في تخفيض جوهري للقوات مباشرة بعد الانتخابات العراقية المقبلة، نجد أطرافاً أخرى تقول عكس ذلك.
ويكمن خطر ما يجري حاليا في العراق من تقويض للمشروع الأميركي في تداعياته على الشرق الأوسط الكبير. فقد بات من الصعب مصالحة الواقع الحالي في العراق بكل ما يضج به من عقبات كأداء مع الرؤية الأميركية التي كان معولا عليها قبل الحرب والمتمثلة في تحويل العراق إلى "منارة" للديمقراطية يحتذى بها في منطقة الشرق الأوسط. بيد أن العراق تقهقر إلى الخلف وتحول إلى مرتع خصب لتفريخ جيل جديد من الإرهابيين سيمتد شرهم إلى كافة المنطقة. وإذا كان القصد من هذه الحرب، كما سعى إلى ذلك المحافظون الجدد، هو إبراز قوة أميركا في العالم وتصميمها على فرض الاحترام للقيم الأميركية، فإن ما يحدث في العراق أساء كثيرا إلى تلك القيم.