تحكيم الهوى والمزاج عند اتخاذ القرارات المرتجلة أو إطلاق التصريحات النارية في عنان السماء، داء عضال تعاني منه الممارسة السياسية، في دولنا العربية. في هذه الحالة يختزل المسؤول الدولة في شخصه، ويجعل ما يصدر عنها، يدور حول ما يكون هو عليه من مزاج. وفي كل الأحوال لا تكون ثمة فرصة لقيام دولة المؤسسات بمهامها، بما يقتضيه ذلك من ترشيد للقرار، وتراكم للأداء بحيث لا يلغي اللاحق فيه السابق. هل تريدون أمثلة على هذا الكلام، تقول كل شيء تقريباً، وتغني عن الاستطراد والتنظير؟ إليكم الآن مثالان مما تناقلته وسائل الإعلام العربية والعالمية خلال هذا الأسبوع.
في المثال الأول يقول الخبر إن فاروق قدومي رئيس الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية قرر إلغاء جهاز الأمن الوقائي في غزة من حركة فتح؟ لماذا؟ لأن عناصر من هذا الجهاز اعتقلوا أحد المحسوبين عليه. تأمَّل هنا دلالات هذا القرار الفردي، وتناقضه مع السياق العام الذي تعمل السلطة الفلسطينية الشرعية على تكريسه. وتأمَّل أن الأخ "أبو اللطف" لا يقيم في غزة ولا يعرف ما يجري فيها، ولا يعاني طبعاً من الجحيم اليومي الذي يفرضه واقع الاحتلال على سكانها، وإنما يعيش هناك في أجواء مكيفة مخملية بتونس الخضراء، ويمارس نشاطه الدبلوماسي، والنضالي أيضاً في المناسبات وعن طريق الريموت كونترول. كان ذنب هذا الجهاز الذي لا يغتفر هو أن يده قد طالت "إرث" أبو اللطف الشخصي، من الثورة الفلسطينية، بمكاسبها، وبموازين قواها، وبمحسوبياتها أيضاً.
أما المثال الثاني، فيبدو صارخاً ربما أكثر من قصة "أبو اللطف" وأمن قطاع غزة الوقائي. ففي خطاب جماهيري حماسي بمدينة النجف، وضمن أجواء طائفية محمومة، وتجاذب سياسي مشحون حول كتابة الدستور العراقي، أعلن عبد العزيز الحكيم زعيم "المجلس الأعلى" الشيعي العراقي، فجأة أنه يتعين تأسيس كيان شيعي يضم تسع محافظات من جنوب ووسط العراق، في سياق لا تفسير آخر له تقريباً سوى الدعوة إلى تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات كردية وسنية وشيعية. ولئن كان قيام دويلة كردية عملياً أضحى شبه أمر واقع من خلال أسطورة الفيدرالية التي تحولت لدى الأكراد بموجب "قانون إدارة الدولة المؤقت" الذي وضعه بريمر، إلى ما يشبه النشيد الوطني أو على الأقل إلى هوس مَرَضي، فإن مبرر قيام كيان خاص بالشيعة في هذه البقعة أو تلك من العراق، لا يبدو مبرراً، ولا أساس تاريخياً له هو الآخر تماماً كالدولة الكردية المزعومة.
إن شخصنة القرارات، والاحتكام إلى المزاج، ودغدغة المشاعر الشعبية الساذجة، أمور تبدو هنا غير مفيدة وغير مثمرة بتاتاً حتى لو وضعنا في الاعتبار أن عبد العزيز الحكيم، لا يشغل الآن وظيفة عليا من وظائف الدولة العراقية الرسمية. إن تصريحاً مطلقاً على عواهنه كهذا يبدو هنا أخطر من أن يحتمل، ذلك لأنه يهدد مستقبل وتماسك العراق، ويرمي بذور تفتيت دولة ظلت على الدوام موحدة بشيعتها وسنتها وأكرادها، وباقي طوائفها. ويبدو أيضاً أن الرد الحازم بالرفض القاطع من قبل الحكومة العراقية على هذه التصريحات غير الحكيمة من عبد العزيز الحكيم لا يكفي وحده، إذ لابد من وضع آلية لعمل مؤسسات الدولة العراقية الوليدة بحيث لا تكون تصريحات خطيرة بهذه الدرجة ممكنة، وعلى أن يتم منع أي طرف آخر من تخريب أسس التعايش أو تهديد المصلحة العراقية العليا حتى لو كان شخصية عامة أو زعيماً سياسياً، بحجم عبد العزيز الحكيم وأتباعه.