أن يتسبب البريد في الإطاحة بالبرلمان المنتخب، فهذا شيء قد لا يصدقه الإنسان العربي، وله العذر في ذلك. فتاريخ أوطانه الحافل بالأحداث الكارثية يكاد يخلو من حادثة يتيمة تحمل فيها مسؤول تبعات قرار خاطىء فقدم استقالته، دعك من اعتراف الحكومة بأن عجزها عن تمرير مشروع ما هو بمثابة فقدانها للثقة وبالتالي ضرورة تخليها عن السلطة. غير أن هذا حدث بالفعل في الأسبوع الماضي في اليابان حينما صوت مجلس الشيوخ بأغلبية 125صوتاً مقابل 108 أصوات ضد مشروع حكومي لخصخصة قطاع البريد، الأمر الذي اعتبره رئيس الحكومة جونيتشيرو كويزومي دليلا على خسارته للثقة وبالتالي مدعاة لحل البرلمان وإجراء انتخابات عامة خلال 40 يوما كما ينص الدستور.
وتعتبر خصخصة البريد الياباني حجر الزاوية في حزمة من الإصلاحات الطموحة التي نادى بها كويزومي منذ وصوله إلى السلطة لأول مرة في أبريل 2001 خلفا لزميله في الحزب "الليبرالي الحر" الحاكم يوشيرو موري، ويريد الآن تفعيلها وسط رفض أحزاب المعارضة بل واختلاف الحزب الحاكم نفسه حولها. وليس أدل على الشق الأخير من لجوء أحد نواب الحزب مؤخراً إلى الانتحار وتصويت 22 من رفاقه ضد المشروع في مجلس الشيوخ وذلك فيما يشبه التمرد على زعيمهم كويزومي. هذا فضلا عن أن المشروع لم يمرر في الخامس من يوليو الماضي في مجلس النواب، حيث يحتفظ الحزب الليبرالي الحر بأغلبية واضحة، إلا بفارق خمسة أصوات.
ويرى البعض في خطوة كويزومي مغامرة غير محسوبة، بل انتحاراً سياسياً قد تقبر مشروعه الإصلاحي إلى الأبد وتضع نهاية لمسيرته السياسية، هو الذي وصف يوم مجيئه إلى الحكم بالهواء المنعش وحقق بشخصيته الكاريزمية المختلفة عن شخصية كل أسلافه شعبية كبيرة واستطاع أن يبقى زمناً قياسياً في السلطة في بلد عرف بكثرة تغيير حكوماته وقادته، ولم ينافسه في ذلك سوى إيطاليا. بل يتنبأ هذا البعض أيضا أن تؤدي الانتخابات العامة التي دعا إليها كويزومي إلى تكرار سيناريو العام 1993، فيخرج الحزب "الليبرالي الحر" من السلطة للمرة الثانية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وتأسيس اليابان الجديدة. ففي العام المذكور تمرد نحو 37 نائباً من نواب الحزب الحاكم في تصويت برلماني ضد حكومة "كيشي ميازاوا"، مما سمح للمعارضة بتحقيق النصر في الانتخابات التالية واستلام دفة الحكم لفترة قصيرة. واليوم تمرد عدد مماثل تقريبا ضد كويزومي، وقد ينشقون لتأسيس حزب جديد أو الانضمام لزملاء لهم انشقوا في فترة سابقة وكونوا حزباً معارضاً باسم الحزب الديمقراطي، خاصة إذا ما عوقبوا بعدم تزكية الحزب الحاكم لهم كمرشحين في دوائرهم الانتخابية التقليدية. والمعروف أن الحزب "الديمقراطي" المعارض الذي تشكل من مجموعة بيروقراطيين شباب عزز مواقعه في الساحة السياسية اليابانية بحصده عددا من المقاعد أكثر من الحزب الحاكم في انتخابات مجلس الشيوخ الجزئية في عام 2004 - وإنْ ظلت الأغلبية في المجلس للأخير بفضل تحالفه مع أحزاب أخرى - وهو يبدو اليوم في نظر البعض منافسا قويا على قيادة اليابان في المرحلة المقبلة.
أما كويزومي الذي تقول استطلاعات الرأي إن شعبيته تراجعت من 70 بالمئة قبل عام إلى 40 بالمئة حاليا، فيبدو أنه لا يلقي بالاً لكل هذه التحليلات وما سبقها من تحذيرات ساقها زملاؤه الكبار في قيادة الحزب "الليبرالي الحر"، ولا يهمه خسارة موقعه القيادي بقدر ما يهمه محاولة إصلاح أوضاع طال السكوت عليها من أجل يابان أقوى وأكثر صحة. وهو الآن أعد حزمة تغييرات تشمل إصلاح نظام التقاعد والنظام الضريبي وعلاقة الحكومة المركزية بالحكومات المحلية، فإنه آثر البدء بإصلاح البريد أو القطاع الذي يعرفه جيداً وله مكانة خاصة في قلبه على اعتبار أن أحد أوائل مناصبه الحكومية المهمة كانت حقيبة البريد والاتصالات في عام 1992.
لكن هل البريد الياباني بذلك التأثير القوي حتى يستفتح الإصلاح به ويتسبب في كل هذا الجدل والانشقاق السياسي؟ الإجابة تتضح حينما نعلم أنه ليس مجرد قطاع خدمي ثانوي مسؤول عن إيصال الرسائل والطرود كما في الدول الأخرى، وإنما مؤسسة عملاقة تمتلك 25 ألف فرع ويعمل بها نحو 260 ألف مواطن. بيد أن الأهم من ذلك هو أصوله التي تصل قيمتها إلى نحو 3.5 تريليون دولار، وأنشطته التي تتجاوز خدمات البريد التقليدية إلى أعمال التأمين والاحتفاظ بمدخرات اليابانيين وتوظيفها في السندات والأسهم، وبما جعله أكبر مؤسسة مالية في اليابان والعالم. ومن هنا فهو لعب خلال العقود الماضية دور الذراع المالي للحكومة من خلال شرائه للسندات الحكومية وبالتالي توفير الأموال اللازمة لمشاريع الطرق والمواني والأنفاق والأشغال العامة. كما أنه لعب عن طريق عشرات الآلاف من سعاة البريد من ذوي العلاقة اليومية بالمواطنين وعن طريق مدراء فروعه المتنفذين في الأرياف دور الماكنة الدعائية السرية في الحملات الانتخابية وبما ساهم في رفد تطلعات بعض المرشحين للمقاعد الانتخابية وتوسيع القاعدة الانتخابية للحزب الحاكم.
وهكذا ل