في مقال سابق حاولنا أن نحدد بعض القضايا التي تشغل وجدان المستوطنين الصهاينة لنحدد بعض معالم الخريطة الإدراكية التي تهيمن على عقولهم. وقد أرجأنا الحديث عن أهم قضيتين تشغلان المستوطنين في الوقت الحاضر وهما الانسحاب من غزة والانتفاضة، وهذا ما سنقوم به في هذا المقال.
يحاول الصهاينة أن يبينوا أن الانتفاضة قد فشلت، ولم تنجز شيئا، ومع الأسف يتبعها في ذلك كثير من الصحف العربية، كما يحاولون أن يصوروا الانسحاب من غزة على أنه مجرد إعادة انتشار، وأنه دليل على القوة العسكرية للكيان الصهيوني أو على رغبة إسرائيل الحقيقية في السلام... الخ، أي أنهم يحاولون إسقاط الرؤية الصهيونية على الواقع حتى يفرضوا عليها المعنى الذي يتفق مع خريطتهم الإدراكية، أي الطريقة التي يتصورون ويدركون بها الواقع.
ومع هذا تخترق الحقيقة سحب الأكاذيب. فمحاولة تصوير الانسحاب من غزة على أنه انتصار إسرائيلي لم تنطلِ على أحد. فقد أفاد استطلاع لكل من الرأي العام الفلسطيني والإسرائيلي (أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية برام الله ومعهد ترومان لأبحاث السلام في الجامعة العبرية) أن 45% من الإسرائيليين و72% من الفلسطينيين ينظرون لخطة شارون لإخلاء المستوطنات من قطاع غزة على أنها انتصار للمقاومة الفلسطينية المسلحة ضد إسرائيل. وذلك مقارنة مع 52% من الإسرائيليين و26% من الفلسطينيين الذين لا يرونها كذلك. وأشار الاستطلاع إلى أن 51% من الإسرائيليين و66% من الفلسطينيين يرون أن الانتفاضة والمواجهات المسلحة قد أسهمت في تنفيذ الحقوق الفلسطينية التي فشلت المفاوضات في تحقيقها.
والانسحاب من طرف واحد دون خطة سلام كاملة هو عبث، ما بعده عبث. هذا هو رأي الكثيرين من "اليمين" ومن "اليسار". فقد صرح "شلومو بن عامي"، وزير الخارجية الأسبق "أن انسحاب إسرائيل من طرف واحد، يخلد صورة إسرائيل كدولة تهرب تحت الضغط. وإذا استمرت الخطوات من طرف واحد فسنجد أنفسنا نقيم دولة فلسطينية معادية". (حلمى موسى: كاتب إسرائيلي متشائم بشأن خطة الفصل، نقلا عن مجلة السفير البيروتية 8 يوليو 2005). وقد بين أوريئيل أبولوف في معاريف (27 أبريل 2005) أن الجمهور الإسرائيلي قد سقط في اللامبالاة، فاهتمامه الآن ينحصر في النتائج المباشرة لعملية الانسحاب من غزة. ويضيف كاتب المقال قائلاً: "إن استطلاعات الرأي العام مؤخراً تدل على أنه بالرغم من أن أغلبية كبيرة من مواطني الدولة يعبرون عن تأييدهم للخطة، فإن جمهوراً كبيراً جداً يصعب عليه أن يبين ما هي غايتها ولماذا كانت. لا عجب كثيراً في الأمر، فخطة الانفصال لم تُعط الرد على الأسئلة الأساسية لوجودنا هنا. لقد أصبحت الخطة وقد أزيلت من سياقها بلا طعم، جمالي أو أخلاقي معاً. يصحبها فساد عام ولم تعط أي جواب على أسئلة الحق والهدف".
أما يوسي بيلين رئيس حركة "ياحد اليسارية"، الذي أيد خطة الفصل، فيقول: "إذا لم يفض الفصل إلى تسوية دائمة فورية، فإنه كارثة ستقع على الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء". ويرى أن "من شأن خطة الفصل أن تقود إلى استئناف العنف: وإن اندلعت النار فإن من شأنها أن تقود إلى انهيار السلطة الفلسطينية".
ويشير قائد سلاح البحرية ورئيس "الشاباك" الأسبق، الجنرال "عامي أيالون"، إلى أن "قائد خطة الفصل يشبه القائد الذي يُخرج السفينة من الميناء نحو بحر عاصف جداً من دون أن يعرف على الإطلاق إلى أين يريد أن يقودها، بل ربما أسوأ من ذلك: فهو يعرف بل ويعرف جداً، ولكنه يخفي ذلك عن الفريق الذي يعاني من عواقب الإبحار". ويشدّد الجنرال على أن "الانسحاب من دون مقابل من غزة، قد يفسر في نظر جزء كبير من الفلسطينيين كاستسلام. كما أن الخطة قد تعزز القوى المتطرفة في المجتمع الفلسطيني".
أما قائد سلاح الجو الأسبق الجنرال إبتان بن الياهو، فيؤكد أنه "ليس هناك أي احتمال في أن تضمن خطة الفصل استقراراً على مدى طويل. الخطة كما هي لا يمكنها إلا أن تجلب في نهاية المطاف استئناف الإرهاب". (حلمى موسى: كاتب إسرائيلي متشائم بشأن خطة الفصل 8 يوليو 2005).
ولعل السبب الأساس الذي حدا بكل هؤلاء الصهاينة أن يحذروا من الانسحاب من طرف واحد دون وضع خطة سلام شاملة، هو الثمن الفادح الذي يدفعه التجمع الصهيوني نتيجة انتفاضة الأقصى. فقد صدر كتاب في إسرائيل بعنوان "كلفة الاحتلال للمجتمع الإسرائيلي"، لدكتور. شلومو سبيرسكي، وقد نشرت مجلة قضايا إسرائيلية، (المركز الفلسطيني الإسرائيلي للدراسات الإسرائيلية "مدار" عدد مزدوج 17 – 18) عرضا لأهم ما جاء فيه. يقول المؤلف إن ثمن احتلال الضفة الغربية كان متدنياً نسبياً، من وجهة النظر الإسرائيلية في السنوات العشرين الأولى (أي من 1967 إلى 1987). لكن منذ اندلاع الانتفاضة الأولى في عام 1987، بدأت إسرائيل تدفع ثمن الغطرسة. في الحقيقة، لا يستطيع الفلسطينيون إلحاق الهزيمة بجيش الدفاع الإسرائيلي، وهزموا في ساحة الحرب مرة تلو الأخرى، لكن رغبة الفلسطينيين المتكررة في الع