في بعض دول العالم الثالث تم رفع شعار الديمقراطية نتيجة الصوت العالمي الذي يسمع من دول الغرب التي تشجع على نشر الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة في العديد من المجتمعات التي يعاني شعوبها الأمرَّين من ظلم هذا الشعار الذي يسمح بالقول الحر ولكن دون إعطاء هذا القول الحر صلاحية حرية الفعل.
فهذا النوع من الانفصام حول تطبيق الديمقراطية المؤطرة في تلك الدول التي تمارس الضحك على شعوبها بأسلوب جديد يشعر الآخرين من حولها بأن هذه الدول تمر في طور من الأداء السياسي الذي يسمح للآخر قول ما يريد وإذا ما مس هذا القول حرية المشاركة في القرار السياسي الذي يتحكم بمصير الملايين كان سلاح الديكتاتورية هو المدفع والقذيفة التي ترمى في وجه المعارضة وإن كانت في حقيقتها صورية.
فحرية الحوار وديكتاتورية القرار نظرية مخادعة جديدة تطبق في أنظمة الحكم المدنية المغلفة برقائق العسكر التي ترخي بأغصانها أمام تيار الضغوط العالمية لممارسة الديمقراطية مع الشعوب التي لم تعرف طعما لها، وعندما وصل الضغط إلى درجة عالية كانت ردة الفعل من قبل بعض الحكومات التي تترجمها وفق مقولة، قل ما تشاء ونفعل ما نريد، أو كما عبر البعض عن ذلك عندما سئل عن مساحة الحرية المتاحة له في بلده فقال بأن صوت ديمقراطية الكلام عندنا أعلى مما هو عند الآخرين فقط، أما الفعل الديمقراطي فلا يتطابق مع أقوالنا الحرة .
وكان من نتائج هذه الألاعيب السياسية الاستمرار في مطب الانقلابات التي لم تنتهِ حلقاتها في العالم الثالث الذي يأبى الصعود إلى المرتبة الثانية بوسائل أكثر إنسانية مما كان يحدث في القرون الماضية فكأنه إرث تاريخي مفروض على الأجيال تذوق مرارته في ذلك العالم المسيج. إننا أمام حالة من التناقض بين مطالب الشعوب ورغبة بعض الحكام في البقاء والإبقاء على ما كانوا عليه منذ عقود مع أن من حولهم قد تغير وبعض الأدبيات تخرج من أفواههم في خطب جماهيرية تصدقها الشعوب المحكومة من قبل تلك الأنظمة التي ما أن تنقلب على رأسها حتى ترى نفسها غريبة وبعيدة عن شعوبها التي طالما صفقت لكافة قراراتها وبصمت في الماضي القريب عليها جملة وتفصيلا واليوم تلفظها بكرة وأصيلا.
إننا نجد أمامنا تيارات عالمية من التغيير بعضها محسوبة بدقة المقياس الفلكي والبعض الآخر يترنح يمنة ويسرة دون أن يستقر على حال يمكننا الوقوف عليه حتى نعرف مبدأه ومنتهاه. ففي كل الأنظمة الديمقراطية يستطيع المرء أن يتوقع أموراً ويحلل قضايا من خلالها بحيث يصل إلى نتائج أقرب إلى الحقيقة والصواب، لأن الخطوات التي تمضي عليها واضحة منذ أول يوم يستلم الحاكم فيه زمام الأمور في دولته.
إلا أن هذا المطلب في العالم الثالث على وجه العموم صعب المنال، لذا يصعب على المتابع رسم التوقعات أو حتى وضع التصورات عندما يحدث أي تغيير مفاجئ على مستوى السياسة العليا للمجتمع، فلا يملك المرء حيال ذلك إلا طول الانتظار ورؤية الشعار البراق حول حرية الحوار وديكتاتورية القرار يهوي على رؤوس الشعوب التي تمارس ضدها أنواع من التخدير في وعيها ببواطن الأمور التي تحاك من حولها دون أن يكون لها نصيب في المشاركة باتخاذ القرار الصائب لتدارك الأمور قبل استفحالها وتحويلها إلى حبل يطوق أعناقها وألسنتها التي كانت طليقة لقول ما تريد حتى تفاجأ بأن ديكتاتورية القرار قد قيدت حركتها وشلتها عن أداء دورها في الوقت المناسب.