النتيجة الأساسية التي تفرض نفسها، من خلال المقالات السابقة التي خصصناها لموضوع العولمة والهوية هي التالية: إن التعارض بين العولمة ومسألة الهوية ظاهرة يعيشها الغرب نفسه، موطن العولمة ومصدرها. وبالتالي فمن الخطأ الجسيم النظر إلى هذا التعارض على أنه، فقط، تعارض بين الغرب/ الشمال بوصفه مصدر العولمة المستفيد منها، وبين بقية العالم/ الجنوب بوصفه المدافع عن الهوية والخصوصية ضداً على العولمة واجتياحاتها.
وإذا جاز لنا أن نطلق اسم "الهُوِيَّانِيّة" على النزعة التي ترفع شعار الهوية، قومية كانت أم إثنية أم طائفية.. الخ، وهذا ما قصدناه هنا بعبارة "مسألة الهوية"، إذا جاز لنا هذا وجب القول إن التعارض بين العولمة والهويانية هو مظهر من مظاهر الصراع في عصرنا، وهو صراع يعيشه العالم ككل كما يعيشه كل بلد على حدة، "متقدما" كان هذا البلد أو "متخلفا". وإذا كان هذا الصراع يبدو في بعض الأحيان، وعلى السطح، في صورة صراع بين "الشمال" داعية العولمة والمستفيد الأول منها، وبين الجنوب "موضوع العولمة" والمستهدف بها، فليس هذا سوى مظهر واحد من جملة مظاهر متعددة.
هذا ما تنطق به الشهادات التي عرضناها في المقالات السابقة. هناك معطيات أخرى لا تدخل في موضوعنا وقد سكتنا عنها. ولكن بما أنها تشبه أن تكون المعبر عن الوجه الآخر من العملة فلابد من الإشارة إليها ولو بكلمات حتى لا تبقى المعطيات التي عرضنا والنتائج التي خرجنا بها هي وحدها "الحقيقة".
نريد أن تستحضر هنا جوانب أخرى في العولمة لابد من التنويه بها وفي مقدمتها التطبيقات العلمية في مجال الإعلام، عبر القنوات الفضائية وعبر الإنترنت خاصة؛ وهي التطبيقات التي أخذت تقلل من دائرة الاحتكار في مجال المعرفة. ثم هناك العمل الإنساني الذي تقوم به معظم المنظمات غير الحكومية التي نشطت في "عصر العولمة" بصورة غير مسبوقة. ولابد من الإشارة كذلك إلى الضغط الديمقراطي الذي يمارس على الصعيد العالمي، والذي يعمل على تكريس قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.. الخ. ومع أنه يمكن التنقيص من جدوى هذه الجوانب الإنسانية في العولمة بسبب كونها متواضعة من جهة، وأيضا خاضعة هي الأخرى لحساب المصالح القومية والإمبريالية، فإن النقص الذي يلابسها لا يفوق بكثير الاستثناءات التي يمكن ذكرها بصدد الوقائع التي سجلناها أعلاه كسلبيات عصر العولمة.
العلاقة بين العولمة ومسألة الهوية ليست إذن علاقة وحيدة الاتجاه, وهي لا تطرح مشكلة واحدة يمكن حلها بل هي تنسج إشكالية لا يمكن حلها إلا بتجاوزها. وعملية التجاوز تتطلب هنا مقاومة هذه الإشكالية بـأقوى أسلحتها، أقصد تعميم المعرفة العلمية. إن التغلب على مساوئ العولمة لن يفيد فيه الهجوم عليها ولا محاولة حصارها. إن السبيل القويم إلى الحد من آثارها على الهوية والخصوصية، والتي تتجلى قبل كل شيء في ما عبرنا عنه بـ"الهويانية"، هو الرفع من مستوى الهوية إلى الدرجة التي تستطيع بها الصمود الإيجابي المملوء بالثقة بالنفس. إن الوسائل التقنية التي توفرها العولمة على مستوى الاتصال خاصة هي خير مساعد على نشر المعرفة العلمية وتعميم الروح النقدية. إن في العولمة سلبيات؛ ولعل أكبر سلبياتها ومخاطرها هي أنها تدفع إلى الوقوع فريسة للهواجس الهويانية، سواء داخل البلدان المتقدمة داعية العولمة أو البلدان الضعيفة المتخوفة منها. إن النقد العلمي وحده يحرر من الاستلاب العولمي والتقوقع الهوياني.
جميع ما تقدم يخص العلاقة بين العولمة والهوية كما تبدو على سطح الحياة الواقعية التي اعتدنا أن نتعامل معها لحد الآن. غير أن هناك وجها آخر للمسألة التي نحن بصددها لابد من الوقوف عنده قليلا.
ليست العولمة مالا واقتصادا فحسب، ولا هي ثقافة بالمعنى السائد لحد الآن للثقافة فقط، بل هي أيضا وفي الأساس اتصال عبر فضاء لا جغرافية فيه ولا تاريخ، فضاء شبكة الاتصال المعلوماتية (الإنترنت). لقد أخذ هذا العالم الجديد يشكل نوعا جديدا من "عالم الغيب"، مع هذا الفارق وهو أنه "غيب" يتم التحكم فيه عن بعد، مما يجعل منه عالما واقعيا، ولكن ليس واقعية العالم الذي اعتاد الإنسان التعامل معه منذ وجد، بل واقعية جديدة نسميها: اعتبارية.
لقد عاش الإنسان منذ وجد بين عالمين يشكل أحدهما "ظلا" للآخر، أعني قرينه الملازم له الذي يحاكيه بصورة ما، وقد تعامل الناس مع هذين العالمين بأشكال عدة: فعلى مستوى الدين هناك "عالم الغيب" أو الآخرة من جهة، وهناك "عالم الشهادة" أو الدنيا من جهة أخرى. ومع أن الديانات السماوية تقرر أن الله وحده يعلم الغيب فقد شيدت "الديانة الشعبية" لنفسها صورا مفصلة عن عالم الغيب إلى درجة غدا معها بعض منتجيها ومروجيها "يعرفون" عن عالم الغيب ذاك أكثر مما يعرفون عن عالم الشهادة: عالم الواقع الذي يعيشون فيه. ويناظر هذين العالمين في الفلسفة -خاصة عند أفلاطون ومن سار على نهجه- عالمان: أحدهما "عالم المُثل" وهو عالم الغيب، والآخر "عالم الحس"، وهو عالم الشهادة. الأول هو "ال