في الثالث من الشهر الجاري أطاح انقلاب عسكري بنظام حكم معاوية ولد الطايع. أشارت السلاسة التي تم بها الانقلاب إلى أنه قد استند فيما يبدو إلى وفاق عام داخل البنية القيادية للقوات المسلحة وقوات الأمن، وذلك بالإضافة إلى عدم وجود مقاومة تذكر للانقلاب حتى وصف بالأبيض. من ناحية أخرى فإنه باستثناء تعليق البرلمان (الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ) فإن المؤسسات الدستورية للنظام الذي أطاح به الانقلابيون قد تم الحفاظ عليها مثل المجلس الأعلى للقضاء والمجالس المنتخبة محلياً والأحزاب السياسية، بل لقد طُلب من حكومة النظام المخلوع تصريف الأمور إلى حين تشكيل حكومة وفاق وطني قيل إن المشاورات بشأن تشكيلها سوف تنطلق قريباً (وقد عين الآن رئيس وزراء لهذه الحكومة). على الصعيد الحزبي والجماهيري رحبت أحزاب المعارضة –وإن على نحو حذر- بالانقلاب أو لنقل إنها قبلت التعامل معه كأمر واقع، فهي من ناحية سعيدة بالقضاء على نظام لم تكن ترى فيه أي مظهر للديمقراطية، غير أنها من ناحية أخرى لا تستطيع التنكر لمواقفها المبدئية المتعلقة بالتغيير السلمي الديمقراطي، ولهذا طالبت تلك الأحزاب الحكام الجدد بتنفيذ وعودهم بإعادة الديمقراطية، والدعوة لانتخابات حرة لتسليم السلطة للمدنيين بسرعة، وكذلك رحبت حركة "فرسان التغيير" بالانقلاب، وهي حركة تضم ضباطاً معارضين حاولوا في السابق الانقلاب على ولد الطايع، وأصدر العديد من زعماء التيار الإسلامي الذي خاصمه ولد الطايع ودخل معه في مواجهات عنيفة بيانات ترحب بالتغيير الذي وقع. لم يفرض قادة النظام الجديد حالة الطوارئ، وخرج الألوف إلى شوارع نواكشوط يوم الانقلاب يعبرون عن تأييدهم لما وقع لكن الأهم أن الحياة عادت إلى طبيعتها في اليوم التالي مباشرة لوقوع الانقلاب.
لا أسوق كافة هذه المؤشرات لكي أدافع عن النظام الجديد في موريتانيا، فالواقع أن أسلوب تغيير نظم الحكم بالانقلابات العسكرية يبدو الآن مفارقاً لحركة التاريخ بعد أن كان الآلية الرئيسية لإحداث التغيير في عقود سبقت، وكانت له مردوداته الإيجابية في حالات بعينها بينما سبب كوارث محققة في حالات أخرى، لكن المرء ليعجب بكل تأكيد للسهولة التي يسقط بها نظام وصفته بعد سقوطه قوى ومنظمات إقليمية ودولية عديدة بالديمقراطية، ولو كان الأمر كذلك لتعين على المرء حقاً أن يراجع مفهومه عن الديمقراطية وجدواها إذا كان من شأنها أن تؤدي إلى إفراز نظم لا يأبه أحد لبقائها من عدمه في الساحة السياسية التي يفترض أنها –أي هذه النظم- تعبير أمين عنها.
على أية حال فليست هذه هي قضيتنا، وإنما القضية هي النظر في ردود الفعل الخارجية لما وقع في موريتانيا، وهي ردود فعل اتسم بعضها بالمنطقية والاتساق مع معايير قائمة بينما جسد البعض الآخر قمة الازدواجية في المعايير، ويلاحظ أنه كلما ضاقت الدائرة الجغرافية لردود الفعل هذه زاد الحذر من المسارعة إلى الإدانة، وسادت لغة التروي والانتظار والصمت، وهو ما ميز موقف كل من "الاتحاد المغاربي" والجامعة العربية، فهل يكون القرب الجغرافي سبباً في الفهم الأفضل للأمور ومن ثم التروي والانتظار، أم يعود الأمر إلى أن ذلك القرب يعني تأثراً أكبر بتداعيات الانقلاب، وهو تأثر تتباين فيه مصالح الدول المجاورة والقريبة، ولذلك فهي تؤثر الحذر وعدم تبني موقف العداء حتى لا تصيب مصالحها بضرر لا مبرر له؟
لكن الدوائر الأوسع أجمعت على إدانة الانقلاب باعتبار أنه وصول إلى الحكم بطريقة غير دستورية، وبعضها متسق في هذا مع نفسه كـ"الاتحاد الأفريقي" الذي لم يكتف بإدانة الانقلاب، وإنما علق مشاركة موريتانيا في أنشطته إلى حين عودة النظام الدستوري، فـ"الاتحاد" لا يستطيع أن يتنكر لقرار سابق له بعدم الاعتراف بالأنظمة التي تنشأ إثر انقلابات عسكرية.
غير أن قمة الانتهازية في المواقف الدولية تبدو واضحة في مواقف أخرى على رأسها دون شك موقف الإدارة الأميركية التي أدانت الانقلاب وأعلن المتحدث باسم خارجيتها منذ الوهلة الأولى أن ولد الطايع هو الحاكم الدستوري، وأن بلاده لا ترى أي سبب يدعو إلى اتخاذ إجراءات خارجة على الدستور، وهو موقف مفهوم "مبدئياً" على ضوء التوجه "الديمقراطي" للإدارة الأميركية من جانب ومصالحها المحققة في بقاء نظام ولد الطايع من جانب آخر، ومن المعروف أن الأخير كان قد ألغى اتفاقاً عسكرياً مع فرنسا، وفتح الباب للولايات المتحدة بالمقابل على النحو الذي مهد لها الطريق للتغلغل في دول الساحل الأفريقي وإجراء مناورات عسكرية عكرت صفو باريس، بالإضافة إلى موقفه –أي ولد الطايع- المعروف من إسرائيل.
لكن واشنطن زادت على ذلك فصعدت من موقفها فجأة في الخامس من أغسطس وأعلنت أنها ستعمل على إعادة الرئيس المخلوع بأسرع وقت ممكن بالتعاون مع الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة وشركاء إقليميين ودوليين وذلك وفقاً للمتحدث باسم الخارجية الأميركية.
أخذت أتأمل في هذا الموقف الأميركي "المبدئي" الذي يعد درساً حقيقياً في ازدواجية المعايير. قفزت