قواعد اللعبة تغيرت... هذه هي القاعدة التي اعتمدها توني بلير ليعلن رزمة من الإجراءات للرد على التفجيرات الإرهابية في لندن، ولمواجهة أي عمليات أخرى محتملة. وهكذا تمكن "الجنرال إرهاب" من تحقيق أحد أهم أهدافه: تخريب قيم الحرية التي بلورها الغرب لنفسه وتفاخر بها حيال الآخرين. وها هي بريطانيا تلتحق بالولايات المتحدة، بحكم الضرورة، أما الدول الأخرى فبدّلت قوانينها بهدوء وبعيداً عن الأضواء الإعلامية التي تجتذبها ضربات الإرهاب. ومنذ زمن لم تعد هذه البلدان ملاذات مرحبة، على رغم أنها استمرت أكثر استضافة من كثير من البلدان العربية والإسلامية التي لا تزال قوانينها ومطاراتها وأجهزتها الحكومية تمارس الطرد أكثر مما تحسن الاستقبال.
لماذا تغيرت "قواعد اللعبة"؟ لأن الحكومة البريطانية تعتقد أن "التسامح" والتعايش اللذين أتاحهما مجتمعها وسهلتهما تشريعاتها قد استغلا على نحو بات يسيء إلى المجتمع نفسه، بدليل أن الانتحاريين قتلوا في يوم واحد نحو ستين إنساناً من مختلف الأعراق والجنسيات، ولا يمكن السماح بتكرار هذه الجريمة. تغيرت أيضاً القواعد لأن السلطة في بريطانيا وثقت بأنها قادرة على السيطرة على الجماعات المؤهلة لتعاطي الإرهاب إما برصدها وتوثيقها والاستفادة من المعلومات التي توفرها، أو بحبس زعمائها المفترضين ومطاردة بعض آخر منهم، لكنها فوجئت بأن تفجيرات 7 يوليو تلفتها إلى مصدر للخطر مختلف جداً، بل غير متوقع. لذا قررت هذه السلطة إغلاق كل الأبواب والنوافذ التي يمكن أن تأتي منها الريح. لا يهم إذا تطلب ذلك تجاوزاً على حقوق الإنسان. ولا يهم إذا استدعى إقفال مساجد أو إبعاد أشخاص أو حبس آخرين لمجرد الظن بهم، ولا يهم أخيراً إذا اقتضت الضرورة توريط القضاء أو الوصول إلى سحب الجنسية ممن منحت إليهم بموجب القانون.
في المقابل تنبغي الإشارة إلى أن الجالية المسلمة في بريطانيا، وهي المستهدفة بهذه الإجراءات، تعد نحو مليون و600 ألف شخص لكنها باتت مضطرة الآن للعيش في ظل تمييز غير معلن وارتياب تلقائي بسبب بضع عشرات قليلة من أفرادها نزعوا إلى العنف ولعلهم يصدقون ادعاءات "القاعدة" وزعمائها. هذه الجالية ليست منظمة ولا متجانسة، وليست لها قيادة أو مرجعية يمكن الاعتماد عليها في مخاطبة أعضائها أو عقد تفاهمات معهم. ولم يكن لهذه الجالية دور يذكر في استجلاب المتطرفين ولا في إيوائهم، بل إنهم جاؤوا حين وجدوا الأبواب مفتوحة أمامهم وما لبثوا أن أقاموا مع السلطة علاقة استغلال متبادل. وحتى أمس قريب كانت السلطة لا تهتم بالأكثرية الواسعة من المسلمين العاديين والمعتدلين الذين يحترمون قوانين البلد ويمارسون حياتهم بمقدار أقل أو أكثر من الاندماج والتكيّف.
لذلك، عندما تقرر السلطة الآن أنها لم تعد بحاجة إلى هؤلاء الأشخاص الذين ساهمت بشكل أو بآخر في صنعهم فإنها لا تنزل أي خسارة بالجالية المسلمة، بل على العكس أنها تخلص هذه الجالية من وجوه لم تجلب لها سوى الإحراجات والمهانات. مهما كانت الإجراءات البليرية مفهومة ومبررة فإنها، وفقاً لناقديها، قد تتحول إلى حملة تطهير ماكارثية، إذا لم تكن ضوابطها محكمة، وإذا لم تتواز بشيء من الاعتراف بحقوق سياسية للجالية المسلمة طالما أن الأكثرية فيها لا تنقض النظام ولا ترفضه وإنما ترى نفسها مضطرة للعيش على أطرافه. تحاول حكومة بلير الاستفادة من التجربة الفرنسية التي توصلت إلى إقامة مجلس منتخب يمثل الجالية المسلمة، ليصبح حلقة الوصل بين الحكومة والجالية. كذلك أسست فرنسا تقليداً عبر توزير مسلمين أو دفع أعداد منهم إلى واجهة أحزابها. لكن الشيء الذي تحتاجه بريطانيا أكثر من سواه هو أن تبتكر لنفسها سياسة خارجية رشيدة ومتبصرة كما فعلت فرنسا. وهذا يحتاج إلى شخصية أخرى غير توني بلير.