ثمة ظاهرتان اثنتان تطبعان بطابعهما الصحافة اليومية العربية، منذ ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، أما أولاهما فتقوم على ظهور "الصفحة الفكرية" في صحف يومية لمرّة واحدة أو أكثر في الأسبوع. وهذه الظاهرة الأولى وإن كان لها حضور قبل ذلك التاريخ، إلا أنها منذ بداياته أخذت تفرض نفسها في الصحافة العربية بالتواكب مع الأحداث، التي راحت تقترن ببروز متعاظم لقوة الولايات المتحدة الأميركية في العالم. وحدث ذلك -في الأساس- مع نشأة النظام العالمي الجديد ومحاولة قائدته الاستفراد بالعالم. وينبغي الإضافة أن هذه الظاهرة الأولى وجدت دفعاً هائلاً من موقع تصاعد ثورتي المعلومات والاتصالات. فهاتان الثورتان حملتا في ثناياهما احتمال القضاء على الأمية الأبجدية والثقافية والإعلامية، وجعلتا من تلقّف المعرفة وإنتاجها مطلباً عاماً وذا طابع شامل، لأول مرة في العالم. ومن ثم، فإن بروز ظاهرة "الصحافة الفكرية" في الصحافة اليومية العربية، جاء استجابة لمطلب امتلاك المعرفة بما يحدث في العالم. ومن خصائص هذه "الصفحة الفكرية" -قياساً إلى "الصفحة الثقافية أو الأدبية" سابقاً- أنها استُحدثت للتأسيس المنهجي والمعرفي للأحداث الجارية، في سياقها الاستراتيجي خصوصاً.
أما الظاهرة الثانية فقد أخذت تُفصح عن نفسها في "عالم الإنترنت" العجيب. فهذا الأخير راح يُحدث حالة جديدة ثنائية الاتجاه، واحد يقوم على اختراق الحدود وفتح المُغلقات والحُجب رغماً عن كل المؤسسات والنواظم، التي أنتجتها البشرية مثل الحدود الوطنية الدولتية والبِنى الأسرية والقيمية، وآخر يجد مهمته في توحيد العالم معلوماتياً، دون أن يُفضي ذلك إلى توحيده سياسياً وثقافياً مثلاً. وقد أخذ الكثير من الباحثين والمثقفين والسياسيين يراهنون على أن "الثقافة المكتوبة الورقية" في طريقها إلى الأفول، مع ظهور منتجات الثورتين المذكورتين، خصوصاً الكمبيوتر والإنترنت. بيد أن الموقف ربما يدلل على أفق آخر يقوم على أن الظاهرتين المأتي على ذكرهما تدللان على التكامل فيما بينهما، أكثر مما يقوم بينهما من تعارض. بل أخذ يتضح أن ما تنشره "الصفحات الفكرية" يجري تسويقه وتعميمه وتخزينه بواسطة الإنترنت. وبدأت -من ثم- حالة جديدة من تعميم الفكر والحوار فيه، حتى حين يكون النص الأصلي قد غاب مع حامله الصحافي (أي الصحيفة).
إن العلاقة التكاملية بين "الصفحات الفكرية" والإنترنت تعزز -إذن- المطلب الفكري الراهن بتعميم واحدٍ من أهم الاستحقاقات، التي تطرحها الديمقراطية: وهو تعميم المعرفة عالمياً بإيصال المعلومة إلى الجميع إيصالاً محايداً، بحيث يمكن توظيفها من قِبل متلقّيها في خدمة التقدم والعدل والحرية. وإذا كان الأمر على هذا النحو من الأهمية والحساسية، فإن استحقاقين اثنين ينتصبان أمام القائمين على "الصحافة الفكرية" العربية. يبرز أولهما في إلحاق العملية بمركزٍ للبحوث والدراسات الاستراتيجية الجاد وبإشراف من مجموعة من العلماء والباحثين والمفكرين، في حين يبرز ثانيهما في قدرة هؤلاء الدينامية المفتوحة على فتح الملفات أو المعضلات الفكرية بمختلف أنساقها المعرفية وكذلك الثقافية السياسية، ومن ثم على إثارة الكتّاب والقراء، معاً، باتجاه الإبداع الفردي الجماعي في تناولهم لتلك المعضلات والملفات. لقد برز هذا الموضوع، الذي نحن الآن بصدده، في حوار جامعي مع مجموعة من الباحثين والدارسين في الحقل الإعلامي الإبيسيتمولوجي وعلى قاعدة الإجابة على السؤال التالي: هل يرتقي الإعلام العربي -والسوري من ضمنه- إلى مستوى الخطاب القادر على إيصال ثلاث رسائل، هي صدقية المعلومة أو الواقعة والقدرة على وضعها في سياقٍ إقناعي وتكويني مناسب، وإمكانية الكشف عن وظائف في إطار العصر المعيش وتفعيلها، من ثم ضمن مقتضيات ذلك. وفي الوقت الذي أبرز فيه بعض الحضور أهمية بعض "الصفحات الفكرية" العربية التي تشرف عليها مراكز بحوث ودراسات استراتيجية، كما هو الحال على صعيد "الأهرام" المصرية و"الاتحاد" الإماراتية، فإن آخرين أبرزوا الطابع الإيديولوجي المباشر لكثير من مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية، التي تشرف على عدد من الإصدارات الفكرية والثقافية والسياسية في العالم العربي.
وهنالك بعض الإشارات ذات الأهمية الخاصة على صعيد ما نحن بصدده، في مقدمة ذلك ما يتبلور في الدعوة إلى تحويل -الصفحات الفكرية- العربية إلى ورشات عمل استراتيجية للباحثين والمفكرين والعلماء العرب يتعرفون عبرها إلى أفكار بعضهم ويقيمون صلات فكرية مع القراء، ويعمّقون من ثم أو يدققون أفكارهم ورؤاهم.