نبني كما كانت أوائلنا...
تبني ونفعل مثل ما فعلوا
روى هذا البيت راوٍ للملك عبدالعزيز رحمه الله، فتأمله فلم يعجبه المعنى، وقال كان ينبغي له أن يقول: ونفعل فوق ما فعلوا، إن فعلنا مثل ما فعلوا لم نزد شيئا.
إن هذه الحكمة الفطرية غير المتكلفة تدل على نوع من التفكير يسعى باستمرار نحو الأكمل والأفضل والأجمل.
وحين تولّى خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز رحمه الله مقاليد الحكم في السعودية عام 1982 وصولا إلى عام 2005 كان تاريخه وأفعاله وتوجهاته تنطق جميعا بمعنى تلك الحكمة التي تشرئب أعناقها دائما تجاه الأفضل.
حين تولّى رحمه الله دفة القيادة في البلاد كانت الأحداث شديدة السخونة في الداخل والخارج، الثورة الإسلامية في إيران وأيديولوجيتها في تصدير الثورة، والحرب العراقية الإيرانية وتبعاتها الخطيرة على المنطقة اقتصاديا وسياسيا، والجهاد الأفغاني ضدّ الروس، وداخليا الانتهاء من فتنة الحرم المكي وحركة جهيمان، وانتشار المدّ الصحوي وحركات الإسلام السياسي، ثم أخطر الأزمات أزمة الخليج الثانية والاحتلال العراقي للكويت.
إن كل تلك الأحداث الجسام التي واجهها الملك فهد بعزم وبصيرة، لم تمنعه رحمه الله من التشبث بيقين صارم بخيار "التحديث" والرقي بالإنسان السعودي في كل المجالات، تطوير التعليم في مستوياته المتعددة بدءا من محو الأمية وانتهاء بسياسة الابتعاث التي لم تشهد لها السعودية مثيلا في سابق تاريخها، والتي خرَّجت جيلا من الشباب السعودي عاد ليثبت نفسه من خلال تسنمه المناصب التي تؤهله لخدمة بلاده، وكثير من أسماء المسؤولين والمثقفين والنابهين في المشهد السعودي اليوم كانوا إحدى نتائج تلك المرحلة.
ولئن كان الفهد قد أسس التعليم واعتنى به مذ كان وزيرا للمعارف حتى اعتلائه العرش، فإن الملك عبدالله في السنوات الخمس الأخيرة وأثناء مرض الملك فهد قد اعتنى بإصلاح التعليم إداريا ومنهجيا، إداريا من خلال دمج رئاسة تعليم البنات بوزارة التربية والتعليم، ومنهجيا من خلال تعديلات جوهرية على مناهج التعليم.
وفي مجالات التنمية الصناعية والزراعية كان لـ"ملك التحديث" الراحل أيادٍ بيضاء في ترسيخها، ومدينتا الجبيل وينبع الصناعيتان تقفان شاهدين عظيمين على وضوح الرؤية وتثبيت التنمية.
ولئن كان الفهد رحمه الله معنيا بالأمن وتثبيته مذ كان وزيرا للداخلية وإلى أن أصبح ملكا، وقد واجه المجتمع السعودي الكثير من الأزمات الكبرى دون أن يختل أمنه أو تهدد سلامته، والملك عبدالله لم يزل يردد بأنه سيلاحق الإرهابيين والمجرمين ومن يحاول الإخلال بالأمن ولو بعد ثلاثين عاما!.
لقد كان الاستقرار السياسي خطاً أحمر لم يكن يرضى "ملك التحديث" أن يمس بأي حال من الأحوال، وقد كانت أزمة الخليج الثانية والاحتلال العراقي للكويت شاهدا على أنه لم يكن يساوم بحال على أن يمس هذا الاستقرار فكان قراره التاريخي الذي سيكتبه التاريخ بحروف من نور باستقدام القوات الأجنبية لرد العدوان البعثي الذي كانت تقوده عنجهية صدامية متغطرسة. لقد كانت المعركة معركة وجود، فكان الفهد رجل اللحظة التاريخية، ولم يعبأ كثيراً بالصارخين المحتجين من الداخل السعودي أو الخارج العربي، واتخذ قراره ونفّذه بحزم، ولم يعد اليوم عاقل منهم فضلا عن غيرهم يشكك في صوابية ذلك القرار ومصيريته، أما "ملك الإصلاح" الجديد عبدالله بن عبدالعزيز فقد أثبت بما لا يدع مجالاً للشك بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر أنه رجل اللحظة التاريخية فاستطاع رغم شدة الضغط والهجوم الذي تتعرض له المملكة أن يقود سفينتها لبرّ الأمان بوعي كامل وحزم لا يلين.
لقد كان "ملك التحديث" الراحل رحمه الله مهموما بالسلام في الشرق الأوسط الذي يؤمن للعرب الفرصة للتحديث والتطوير بعيدا عن العنتريات الجوفاء التي كانت مسيطرة آنذاك، فقدم مشروعا عربيا للسلام في قمة فاس عام 1982، ولم يقبل بعض العرب حينها مشروعه، وعادوا بعد سنوات طويلة ليتمنوا بعض ما عرضه عليهم الفهد آنذاك، وها هو ملك الإصلاح الجديد عبدالله بن عبدالعزيز يعرض تصورا جديدا للسلام في المنطقة ويقدمه للقمة العربية في بيروت 2002 ويتبناه العرب جميعا.
لم يكن "ملك التحديث" الذي صنع النهضة الحديثة للمملكة العربية السعودية يساوم على استقلال القرار السعودي وسيادته، وما طرده للسفير الأميركي عام 1988 لتدخله في شأن سعودي داخلي يتمثل في شراء السعودية صواريخ من الصين إلا شاهد على هذا، وسار "ملك الإصلاح" على ذات النهج وذات القوة وليس عنا ببعيد خطابه للرئيس الأميركي قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر مع سلسلة مواقف تؤكد كلها ألا مساومة عنده على السيادة.
وفي سبيل التحديث السياسي والتطوير، وضع "ملك التحديث" رحمه الله أنظمة ثلاثة لتنظيم الداخل السعودي، النظام الأساسي للحكم ونظام مجلس الشورى ونظام المناطق، وعلى الخطى سار "ملك الإصلاح" بإعلانه للانتخابات البلدية وإنشاء جمعية الصحفيين وتأسيس الحوار الوطني مع وعود صادقة كثيرة بالإصل