عندما وصل الملك فهد بن عبد العزيز إلى سُدَّة السلطة عام 1982 على إثر وفاة شقيقه الملك خالد، كان هناك دورٌ على خشبة المسرح يبحث عن ممثلٍ أو مؤلّف بحسب تعبير الكاتب المسرحي الإيطالي لويجي بيراندللو. وما كان ذلك بالدور السهل القيام به فضلاً عن الكفاءة في تمثيله. ولنسترجع أحداث تلك الفترة الحاسمة في التاريخ العربي الحديث، أو لنقل فترة السنوات الخمس بين 1977 و1982. في العام 1977 ذهب الرئيس السادات إلى إسرائيل مُنهياً بذلك بقايا زعامة مصر في العالم العربي من أجل استرداد سيناء، وكسْب صداقة الولايات المتحدة. وفي العام نفسِه دخلت الحرب الأهلية اللبنانية مرحلتها الثانية بحسب التعقيب المتعارف عليه آنذاك- وهو العام نفسُه أيضاً الذي سيطرت فيه القوات السورية على لبنان، تحت غطاء قوات الردع العربية أولاً, ثم بدون غطاءٍ لحين خروجها عام 2005 على وقْع زلزال اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وما اشتبك السوريون في دخولهم إلاّ بقوات منظمة التحرير الفلسطينية وحلفائها من التقدميين(الذين كانوا يسمُّون أنفسهم: الحركة الوطنية). ثم في العام 1979 حدث الغزو الإسرائيلي الأول للبنان لإبعاد قوات منظمة التحرير عن حدود الكيان الصهيوني لمسافة أربعين كيلومتراً. وفي العام 1981 قُتل الرئيس السادات على أيدي الإسلاميين المتشددين من تنظيم الجهاد، وتقدم ولي العهد السعودي وقتها الأمير فهد بن عبد العزيز بمبادرته إحلال السلام في الشرق الأوسط.
وعندما وصل الملك فهد للسلطة عام 1982 كانت إسرائيل تتغلغل في لبنان إلى حدود بيروت ثم تحتلُّها وتُخرج ياسر عرفات وقواته بحراً إلى تونس. وفي العام نفسه بلغت الحرب العراقية-الإيرانية إحدى ذراها مع بدء الهجوم الإيراني المضادّ، وازداد النزاع بين سوريا والعراق حتى وصل إلى حافّة الحرب.
أما السعودية، والتي ما كانت في وارد الصراع على زعامة العرب، فقد وجدتْ نفسها أمام دورٍ ووظيفةٍ لا يمكن الإعراضُ عنهما أو يضيع المشرق العربي والخليج بفقدان استقلاليتهما: فمصر غائبة، والعراق وسوريا يتنازعان على وراثة مصر دونما تأهُّل لذلك، والفلسطينيون يُستنزفون، والصراع دائرٌ في لبنان. وتسلَّم الملك السعودي الجديد آنذاك، الدَورَ بالشغور ثم استحقّه بالتأهُّل.
بدأ أولاً بسدّ الثغرات، ولأْم الجراح، وإعادة الاستقرار إلى البُنى المتزعزعة. ففي لبنان قبل بمشاركة سورية عبر قوات الردع العربية لإخماد النزاع، وعندما لم ينجح ذلك واشتدّ التنافُسُ على لبنان، بين سوريا ومنظمة التحرير، أرسل مبعوثيه عبر سوريا إلى لبنان للعمل على جمع اللبنانيين. وثابر عَبْر رفيق الحريري طَوالَ الثمانينيات، إلى أن نجح في جمع اللبنانيين بمدينة الطائف حيث اتفقوا على إنهاء الحرب. وما اكتفى بذلك بل دعم نهضة رفيق الحريري الإعمارية بالمساعدات السعودية المباشِرة، وبالاتّصال بالأشقّاء والأصدقاء للدعم السياسي، ولمواجهة الاجتياحات الإسرائيلية خلال عملية بناء الدولة والاقتصاد. وهدَّأ الأجواء العربية المتشنّجة من حول منظمة التحرير الفلسطينية، وساند حركتها في العالم والمؤسَّسات الدولية، إلى أن اطمأنّ لمصائر المنظمة وقوتها داخل فلسطين باندلاع الانتفاضة الأولى. وحاور سوريا والعراق طويلاً إلى أن تمكن من استعادة مصر إلى الجامعة العربية والجامعة العربية إلى مصر. وما نجح في جمع سوريا والعراق حتى في مؤتمرات القمة، لكنه سحب الفتيل من النار المشتعلة فضمِن عدم نشوب الحرب بين الجارتين. وفي الوقتِ نفسِه أصرَّ على جمع العرب في مؤتمرات القمة، واجتماعات جامعة الدول العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، للاحتفاظ بالحدّ الأدنى من التواصُل – حتى إذا اطمأنّ لتحسُّن الأجواء عاد لإطلاق المبادرات لكي تستعيد الحركية العربية زخَمَها، فيكتسب الجسم العربي مناعةً افتقدها في سنيّ اشتداد الخصومات.
استند الملك فهد في جهوده للملمة أطراف الجسم العربي إلى استقرارٍ مشهودٍ في المملكة العربية السعودية، ترسخت دعائمُهُ بالحركة التنموية الكبرى، وبالإعمار والبناء. فقد اشتهر عن الملك الراحل عشقُهُ للبناء أياً تكن الكلفة. وفي عهده تطور مجتمع الأعمال السعودي تطوراً كبيراً وبدأ يتمايز عن الدولة، ويسير في طرقه الخاصة، رغم أنّ دور الدولة لم يضعُفْ ، أو أنّ الملك لم يسر في عمليات إعادة الهيكلة بالسرعة التي اندفعت فيها الدول العربية الأخرى. وكما يأخذ عليه الاقتصاديون البطء في عمليات ترشيق حجم الدولة، يأخذون عليه البطء في عمليات التطوير السياسي. ومع ذلك فقد اشترع قوانين المناطق، وفعَّل مجلس الشورى، وأقرَّ عُرف الانتخاب في الغُرَف التجارية، وفي النوادي الثقافية، وصولاً أخيراً إلى الانتخابات البلدية. وما كانت هناك حركية ظاهرة في المجال الديني أو في مجال العلاقة بين الدولة والمؤسسة الدينية. وباستثناء التمرد المهدوي/ النشوري عام 1980 عندما احتلت جماعةٌ حروفية العقائد الحَرَم، بدا أنّ الأمور هادئة نسبياً في الثمانينيات، وأنَّ العلاقة بين الدين والدولة