إحدى مشاكل السياسة الخارجية الراهنة للولايات المتحدة هي كيفية المواءمة ما بين الرغبة في سيادة قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم التي تستوجب انتقاد الأنظمة الشمولية ودعم معارضيها، ومتطلبات الأمن القومي الأميركي التي تفرض أحيانا التعامل مع تلك الأنظمة والسكوت عن جرائمها. مثل هذه المشكلة لم تكن تؤرق الأميركيين كثيرا في سنوات الحرب الباردة التي فرضت طبيعتها وظروفها التخلي عن الكثير من المبادىء والقيم لصالح مد النفوذ في كل مكان من أجل الانتصار على السوفييت، بدليل أن واشنطن لم تكتف بدعم العديد من الدول ذات الأنظمة الديكتاتورية حفاظا على مصالحها الاستراتيجية فيها, وإنما ساهمت في ضرب محاولات التغيير. ولعل أفضل مثال هو مساندتها لنظام الشاه في إيران ضد حركة مصدق الوطنية في الخمسينيات.
ومناسبة هذا الحديث هو ما أعلنته الحكومة الأوزبكية نهاية الشهر المنصرم من أنها أمهلت واشنطن فترة ستة أشهر لسحب جنودها ومعداتها من قاعدة كارشي خان آباد التي يستخدمها الأميركيون منذ عام 2001 بموجب اتفاقية ثنائية. هذه القاعدة التي أرخت لأول تواجد غربي في آسيا الوسطى منذ زمن الاسكندر الأكبر، ولعبت دورا مهما في تسهيل مهمة القوات الأميركية للإطاحة بنظام طالبان الأفغاني في أكتوبر 2001 بفضل موقعها الاستراتيجي على بعد 190 ميلا من شمال أفغانستان، كانت حتى وقت قريب عنوانا للعلاقات الاستراتيجية التي ربطت البلدين منذ زيارة الرئيس الاوزبكي إسلام كريموف لواشنطن في عام 2002. كما كانت تجسيدا حيا لتعاونهما الذي بدأ في عام 1992 بإقامة علاقات دبلوماسية ثم تشعبت سريعا لتشمل مجالات متنوعة.
وبطبيعة الحال فإن فقدان واشنطن لهذه القاعدة قد لا يؤثر كثيرا على عملياتها العسكرية والإنسانية في أفغانستان أو غيرها لأنها تملك بدائل أخرى من بينها قاعدة "ماناس" الجوية في قرقيزستان حيث تحتفظ بمعدات عسكرية ونحو 1200 عنصر أميركي وكوري جنوبي، إضافة إلى التسهيلات العسكرية التي تقدمها لها طاجيكستان بموجب تفاهم ثنائي. غير أن الحدث يصلح كمثال جيد على إمكانية أن تقع واشنطن ضحية لسياساتها الداعية إلى الإصلاح والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان, فتخسر نفوذا بذلت من أجله الكثير لصالح قوى منافسة لا تعير تلك المسائل أية أهمية.
من السهل بطبيعة الحال على نظام كريموف أن يقول في تبرير قراره أشياء مثل استنفاذ الأغراض التي دعت إلى تواجد الأميركيين في القاعدة بزوال نظام طالبان, وتحسن الأوضاع في أفغانستان، أو مخالفة الأميركيين لبنود الاتفاقية الخاصة بالقاعدة بتهربهم من دفع تكاليف الصيانة والحراسة والوقود وتعويضات الأضرار البيئية الناجمة من حركة طائراتهم العملاقة. غير أن الدوافع الحقيقية للقرار تبدو مختلفة تماما يكشفها التوقيت، وإلا لأقدمت طشقند على قرارها في وقت سابق.
يجمع المراقبون أن الخطوة جاءت ردا على موقف واشنطن المندد بأعمال القمع والقتل التي ارتكبها نظام كريموف بحق مئات المواطنين العزل في "انديجان" في مايو الماضي، ومطالبتها بإجراء تحقيق دولي مستقل في تلك الأحداث. كما يمكن النظر للقرار من زاوية المخاوف التي صارت تتلبس الرئيس الاوزبكي من إمكانية استغلال الأميركيين لتواجدهم على أراضيه في إسقاطه من خلال دعم ثورة شعبية على غرار الثورة الوردية في جورجيا والثورة البرتقالية في أوكرانيا وثورة الزنبقة في قرقيزستان، وكلها انتفاضات حظيت بدعم إدارة الرئيس جورج بوش، بل إن الأخير أثنى عليها في عدة خطب وعدها انتصارا للحرية والديمقراطية في مواجهة القمع والديكتاتورية.
والجدير بالذكر أن الرئيس كريموف كان قد عبر عن امتعاضه من الموقف الأميركي بتقييد حركة الطائرات الأميركية في قاعدة كارشي خان آباد ليلا، ثم لمح إلى إمكانية إعادة النظر في بنود اتفاقيته مع الأميركيين. واتبع ذلك بتصريحات تسخر من "القوى التي نصبت نفسها مدافعة عن الديمقراطية في العالم"، الأمر الذي قوبل في واشنطن بالامتعاض بدليل أن وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد استثنى أوزبكستان من جولته في آسيا الوسطى في أواخر الشهر الماضي مكتفيا بزيارة جارتيها، قرقيزستان وطاجيكستان.
هذه التطورات في الموقف الاوزبكي استغلتها الصين وروسيا، الدولتان اللتان تبدوان الآن في حالة انتقال من سياسة الصمت أو العمل الصامت حيال توسع النفوذ الأميركي في دول آسيا الوسطى أو ما تعتبرانها حديقتهما الخلفية إلى سياسة المناكفة العلنية لاستراتيجيات واشنطن في المنطقة. فكلا البلدان التزما الصمت يوم كان التواجد الأميركي في المنطقة يخدم أغراضهما في التخلص من نظام طالبان وتنظيم القاعدة الداعمين للحركات الإسلامية الانفصالية في الشيشان وداغستان وإقليم سينكيانغ الصيني. أما الآن، وبعدما انتهت طالبان وتشتت القاعدة ونجحت بكين من بناء نفوذ لها في آسيا الوسطى عبر بوابة الاقتصاد والاستثمارات والمساعدات التنموية والمناورات العسكرية المشتركة، وتمكنت موسكو من زيادة تواجدها العسكري في