"الانسحاب من غزة، بداية قيام الدولة الفلسطينية "! هذا ما أعلنه أكثر من مسؤول عربي لحظة بدء الانسحاب. وبالرغم من الشكوك الكبيرة حول الموضوع، فإذا سلمنا جدلاً بأنه يعبـّر عن حقيقة فإن السؤال الذي يطرح هو: عن أية دولة يتحدثون؟ أهي دولة غزة أولاً وغزة أخيراً، مع استمرار الاستيطان في مناطق أخرى، ومع تصريح رئيس الحكومة الإسرائيلية آرييل شارون ان "يهودا والسامرة" هي أرض يهودية لا يمكن التنازل عنها وأن التوراة هي أهم من كل الخرائط السياسية في إشارة واضحة إلى "خريطة الطريق"؟.
من المعروف منذ زمن طويل أن إسرائيل لا تريد البقاء في غزة، وهي كانت ترغب في تسليمها إلى جهات أخرى, ويخشى أن تكون مصر قد تورطت الآن بأمن غزة بعد الاتفاقات المصرية الجديدة حول المعابر وخصوصاً معبر "فيلادلفيا". وبالرغم من الانسحاب إذا اكتمل, فإن إسرائيل تحتفظ لنفسها بحق "الدفاع عن النفس" والقيام بأي عمل يضمن أمنها! وإسرائيل تحاول توريط الأردن بأمن الضفة من جهة أخرى!
لقد أجبرت إسرائيل على الانسحاب كما يقول بعض الإخوة الفلسطينيين. هذا صحيح. والمقاومة فرضت نفسها. ولولاها كان التهويد شمل كل مناطق فلسطين. ولكن الأهم هو: ماذا بعد الانسحاب؟ ما هو موقف السلطة الفلسطينية؟ هل ستغرقها إسرائيل في أمن غزة، وبالتالي في مكافحتها لـ"الإرهاب " أي في اقتتال فلسطيني- فلسطيني كانت بداياته الخطيرة منذ أسابيع وذلك تحت ذريعة إلزام السلطة بتعهداتها قبل الإقدام على أي خطوة إيجابية من قبل إسرائيل؟ أوليس هذا خطراً قائماً بحد ذاته؟
تنشغل السلطة الفلسطينية والقوى الأخرى بمشاكلها الداخلية الأمنية والسياسية وتتفرغ إسرائيل لبناء جدار الفصل العنصري، ولبناء مستوطنات جديدة وتهويد المزيد من الأراضي, وتخفف عنها قتل المزيد من الفلسطينيين ما دام الفلسطينيون أنفسهم يقتتلون؟
إنه خطر استثنائي، وينبغي تداركه بالكامل وعدم الوقوع فيه لأن خسائره ستكون كارثية على كل الفلسطينيين. ويجب ألا ننسى أن القيادة التاريخية لم تعد موجودة لدى الشعب الفلسطيني, مع احترامنا لمن يتبوأ مراكز المسؤولية اليوم في المنظمات المختلفة خصوصاً في منظمة فتح، وفي منظمة التحرير الفلسطينية أو في السلطة. إضافة إلى ذلك فإن الخلاف على السلطة بين بعض القوى كبير. "فتح" لم تعد موجودة كما كانت، ومنظمة التحرير بكل بنيتها لم تعد كما كانت، والشعب الفلسطيني يعاني وإسرائيل تتربص بالجميع.
العالم العربي لم يعد كما كان، والدعم لم يعد متوفراً وقد خسر هذا العالم ثلاثة من قادته الكبار خلال عام إضافة إلى أبو عمار، وهم: المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان الذي دشن ابنه الشيخ عبدالله بن زايد وزير الإعلام والثقافة الإماراتي مدينة باسمه في المناطق التي اجتاحتها إسرائيل. وهو – أي الشيخ زايد – كان من أبرز حكماء العرب ومناصري ومؤيدي الشعب الفلسطيني. ثم اغتيل الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي كان سنداً للشعب الفلسطيني في مختلف المحافل, وقد لعب دوراً مهماً في حماية القيادة الفلسطينية ومساعدتها على إقرار دستورها وتوفير مقومات دعم لها. وأخيراً افتقدت الأمة الملك فهد بن عبد العزيز الذي كان خير داعم للقضية الفلسطينية وللشعب الفلسطيني وقيادته وشكـّل ضمانة كبرى لهما. والبركة في من خلف في كل هذه المواقع، لكن غياب الكبار ترك أبرز الآثار، وبالتالي فإن الواقع الفلسطيني الداخلي صعب، والواقع المحيط به أصعب والتحديات كبيرة، وإسرائيل مرتاحة. فهل ثمة أمل بقيام دولة فلسطينية مع شارون؟
بالتأكيد, لا. الانسحاب من غزة أمر مهم. والشعب الفلسطيني بحاجة إلى هدنة وراحة واستقرار. ولذلك ينبغي الاستفادة من هذه الفرصة لتعزيز الوحدة الوطنية الفلسطينية، ومنع الاقتتال الداخلي والاحتفاظ بالسلاح في وجه العدو، وتوفير مقومات الاستمرار والصمود لهذا الشعب, وهذه مسؤولية فلسطينية أولاً, ومسؤولية عربية شاملة ثانياً. وإذا كان العرب قد تداعوا لعقد قمة بعد تفجيرات شرم الشيخ، لمواجهة " الإرهاب " فإن أي اجتماع عربي مفيد في المبدأ، لكن المفيد أكثر هو النتيجة في القرارات, وفي التنفيذ.
إن المطلوب اليوم دعم للفلسطينيين, وإعادة بناء وتأهيل للمناطق التي ستنسحب منها إسرائيل. وعدم الرهان في الوقت ذاته على صدقية شارون الذي بإمكانه في أي لحظة افتعال مشكلة والاعتداء على الفلسطينيين واتهام البعض منهم به، وبالتخطيط لعمليات إرهابية لإسقاط كل الوعود والالتزامات التي قطعها أمام العالم. وجريمة "شفا عمرو" الأخيرة خير دليل على ما أقول.
إن عامل الوقت مهم. وهو العامل الأساس الذي يراهن عليه شارون وإن كان في سباق معه. فهو عمـّق علاقاته مع أميركا، واستدرج فرنسا إلى علاقات مميزة على حساب علاقاتها مع العرب عموماً ومع الفلسطينيين خصوصاً. وسوف يحصل على مزيد من الدعم المالي ثمناً لانسحابه، دون أن يكون ثمة شيء يمنعه من الاحتلال مجدداً أو تدمير ما يمكن أن يعيد بناءه الفلسطينيون، مع التأكيد الدائم والمستمر