يجوز للمراقب أن يشك في قدرة النوايا الطيبة التي أبداها رئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة على تذليل المصاعب كلها التي تعترض العلاقات اللبنانية- السورية. ذاك أن فك الحصار البري لا يكفي بذاته، بل يثير أسئلة حول مبدأ اللجوء إلى الحصار في العلاقات بين البلدين. أما اللغة الأخوية التي تموه الواقع فلا تستطيع، في آخر المطاف، التغلب على مشكلات الواقع. وهي، في هذه الحالة، عميقة ومعقدة ترقى إلى الولادة الحديثة للبلدين الجارين. فمنذ 1946 حين استقلت سوريا وجلت الجيوش الأجنبية عن لبنان، ولدت دولتان كل منهما تسمي الأخرى "شقيقة"، لكن العلاقة بينهما لم تكن سعيدة أبداً. والحق أن هذا الشقاء كانت له أسباب وجيهة، فقد ولدت سوريا الحديثة بوصفها استجابة لفكرة "الوحدة العربية" بينما ولد لبنان كاستجابة لفكرة الحرية. ذاك أنه منذ أقيمت دولة للأمير الهاشمي فيصل في دمشق مع انهيار السلطنة، اعتبر السوريون أن بلادهم بديل عن الدولة العثمانية بقالب قومي عربي هذه المرة. ولئن أطاح الفرنسيون تلك الدولة القصيرة العمر التي دعمها البريطانيون فإنهم لم ينجحوا في إطاحة فكرتها. وبالنتيجة تشكل نوع من لاوعي جماعي سوري يتعامل مع لبنان وشرق الأردن وفلسطين بصفتها أجزاء من سوريا فصلها الاستعمار الأنجلو فرنسي عنها. وتبعاً لذلك بدت "الوحدة العربية" كأنها تعادل إعادة سوريا إلى وضع طبيعي.
كان هذا التصور أيديولوجياً بامتياز لأن هذه السوريا لم توجد في التاريخ من قبل، لكن الخرافة استولت على عقول السوريين جيلاً بعد جيل، فصارت الوحدة العربية لازمة في برامج الأحزاب وفي برامج التعليم إضافة إلى خطب المشايخ أيام الجمعة والأعياد. أما لبنان فأنشأه الابتعاد عن السلطة المركزية للإمبراطوريات العربية والمسلمة، فعندما ولد "لبنان الكبير" في 1920 كان مرجعه "لبنان الصغير" الذي قام في 1860 كإقليم ذي حكم ذاتي نجحت الدول الأوروبية في انتزاعه من السلطنة.
وكان في التصور اللبناني الكثير من العناصر الأيديولوجية المزعومة. فقد راح المثقفون اللبنانيون يردّون هذا التعلق بالحرية إلى أزمنة سحيقة كالعهود الفينيقية والرومانية وما قبل التاريخ، وينسبون إلى "اللبناني" جوهراً مثالياً راسخاً في الزمن انطوت في داخله الحرية والتجارة الحرة دون انقطاع!
ووجد سبب آخر فصل بين البلدين الوليدين، ذاك أن سوريا بلد أكثري في وعيه السياسي السائد، فيما لبنان بلد أقليّ. فقرابة 70 في المئة من السوريين سُنة، ودمشق عاصمة الأمويين الذين أنشأوا الإمبراطورية المسلمة السُنية الأولى، والنُصب التاريخي الأهم في دمشق هو الجامع الأموي وفيه قبر صلاح الدين الأيوبي الذي استعاد القدس من الصليبيين. صحيح أن التركيبة الطائفية للسلطة كثيراً ما تغيرت فيما بعد، إلا أن هذه العناصر الأيديولوجية التي تبناها حزب البعث وعممها لم تتغير. أما لبنان فبلد أقليّ شكل المسيحيون فيه لدى تأسيسه حوالي 60 في المئة من السكان، إلا أن أكثريتهم المارونية كانت تعد أكثر من ثلثيهم قليلاً، فيما توزع الثلث الآخر بين سائر الطوائف المسيحية. ولئن شكل المسلمون آنذاك 40 في المئة، فقد انقسموا إلى طائفتين كبيرتين هما السُنة والشيعة، فضلاً عن الطائفة الدرزية الصغيرة، وفوق هذا، مجدت الأيديولوجيا السورية السائدة الكثرة ومجدت الأيديولوجيا اللبنانية السائدة القلة. ففي دمشق كان التركيز على "الأمة" و"القومية" و"المجد" و"معارك المصير" التي تتطلب جيشاً قوياً.
وفي بيروت كان التركيز على بناء بلد للأقليات "الهاربة من طغيان الحكومات المركزية"، وعلى الغنى الذي يوفره تعدد الأقليات، وعلى ثنائي الجبل والبحر الذي أطنب ميشال شيحا، واضع الدستور اللبناني الأول، في وصفه والتعليق عليه.
وغني عن القول إن الأيديولوجيا السورية كانت جذابة أكثر في "العالم الثالث" حيث تتمتع الشعوب الكبيرة والجيوش القوية والأسواق الصالحة للصناعات الثقيلة بمرتبة تكاد تكون مقدسة، فيما الاختلاف والصغر لا يشجعان الجيران على احترام صاحبهما، وقد يشجعان على استغلال ضعفه لمصلحتهم. لكن النزعة الأكثرية السورية كانت متشظية وقابلة للتفتت، تماماً كما أن النزعة الأقلية اللبنانية انطوت على رغبات أكثرية تشتط أحياناً.
ففي سوريا استحال للدولة - الأمة الجديدة أن تتوطد تحت ضغط التناقضات الكبيرة وأهمها نزاع العاصمة دمشق مع "عاصمة الشمال" حلب. فالأولى شدّتها مصالحها التجارية وعواطفها السياسية إلى الأردن وفلسطين ومصر والسعودية، فضلاً عن لبنان. أما الثانية فانشدّت إلى العراق وتركيا.
والأولى كان لها حزبها التاريخي الذي هو "الكتلة الوطنية" والثانية كان لها "حزب الشعب". وبسبب التنافس المرير بينهما قفز الجيش إلى السلطة بعد ثلاث سنوات على الاستقلال، فقام حسني الزعيم في 1949 بأول انقلاب عسكري ناجح في العالم العربي، لكن هذا الضابط المصاب بالعُظام والغريب الأطوار لم يبق في السلطة إلا أربعة أشهر، أسقطه بعدها معاونه سامي الحناوي، وحكم ا