إن البحث عن علل الأشياء وأسبابها يبدو سهلا في الظاهر ولكنه صعب في الواقع. إذ تتفاوت العلل بين العلة الفاعلة والعلة الغائية. والعلة الفاعلة مجرد أداة في حين أن العلة الغائية هي العلة الفاعلة بالفعل. وأول ما تبادر إلى الذهن, الإرهاب "الإسلامي" دون أدلة أو براهين. وإذا كان هو أحد المسلمين أو بعض منهم فلماذا صفة الإسلامي خاصة وأن عنف الجيش الأيرلندي لا يسمى الإرهاب الكاثوليكي. فالإسلام دين له تفسيرات عدة مثل كل دين. ولا يمثله سلوك واحد. وقد يخرج باسمه سلوكان نقيضان، الانتقام والمغفرة، العنف والرفق، التعصب والتسامح.
وسرعان ما تخرج إدانة المسلمين لأفعال العنف، يتبرؤون من هذه الفعلة الشنعاء التي قام بها فريق ضال منهم، إرهابيون من جماعة الجهاد أو القاعدة أو من المنظمات الجهادية في أوروبا. يتنصلون من بني قومهم ومن إخوتهم في الدين تجنبا لردود الأفعال الغاضبة من البريطانيين، ومن المجتمع الذي يعيشون فيه بعد أن أحسن استقبالهم.
فهم بريطانيون مسلمون يريدون أن يعيشوا في سلام مع المجتمع البريطاني ولا يؤخذون بجريرة السفهاء منهم. ورئيس وزراء بريطانيا يبادلهم التحية بأحسن منها ويردها. فهم بريطانيون أصلاء وإن كانوا في الأصل من المهاجرين. يعرفون الإسلام الصحيح، ويستنكرون أفعال الفئة الضالة. وما أسهل الإدانة وما أصعب الفهم. ما أسهل الحكم وما أصعب الحيثيات. ولماذا الذهاب للعلة الأيديولوجية، وهي العلة المحركة على الفعل وليس إلى العلة الجاذبة التي دفعت إلى الفعل وهي العلة الغائية؟
إن العلل الحقيقية هي الدافع على الفعل والبواعث عليها والغايات منها. وما دام هناك إنسان فضل الشهادة على الموت، وآثر الآخرة على الدنيا, فلابد أن تكون هناك علة فاعلة أو غاية نبيلة دفعته إلى ذلك. فلا يوجد عاقل يؤدي بنفسه إلى التهلكة، ويأخذ معه حياة الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ وربما من بَنِي وطنه, إلا إذا كان هناك دافع قوي يدعوه إلى ذلك.
ما حدث في لندن كان مخططا له أن يحدث في اسكتلندا حيث اجتماع الدول الثماني الأكثر تصنيعا في العالم، مجمع رأس المال العالمي من أجل احتكار السوق باسم المنافسة الحرة. وقد قامت المظاهرات من البريطانيين أنفسهم ضد رموز العولمة الحديثة دفاعا عن فقراء العالم. ونظرا لاشتداد قبضة الأمن في الشمال خف ضبطها على الجنوب فحدثت تفجيرات لندن. السبب إذن ليس فقط السيطرة الاقتصادية على ثروات العالم بل على التبعية للولايات المتحدة، ومشاركتها في الغزو على العراق، وقتلها عشرات الأطفال والنساء والشيوخ من العراقيين في البصرة والفلوجة، ونهب جزء من عائدات النفط العراقي.
وتستعيد الذاكرة تاريخ بريطانيا الاستعماري في مصر والسودان: قمعها الثورة العرابية في مصر، والثورة المهدية في السودان، وقمعها الثورة في جنوب أفريقيا وعدن، واحتلالها الخليج كله، وهونج كونج وسنغافورة لربط البحار لسريان الأسطول البريطاني في موانئ عبر قارات العالم الخمس ومحيطاته الستة. وأخيرا وعد بلفور في 1917 لإنشاء وطن قومي لليهود ومساعدة الهجرات الأولى في فلسطين.
وكل معتدى عليه يكتشف مواطن قوته ومواطن ضعف الخصم. قوة الخصم في العدة والعتاد والآلة العسكرية، والطائرات والمدافع والدبابات، وقوة المعتدى عليه في حبه للشهادة "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون". وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل من حب الحياة وكراهية الموت.
وقد أحدثت تفجيرات قطارات لندن نتائجها كما أحدثت تفجيرات قطارات مدريد من قبل، فقد تم الإعلان عن ضرورة البحث عن الأسباب التي تؤدي إلى العنف دون الاكتفاء
بالإجراءات الأمنية. وبدأ الإعلان عن ضرورة سحب القوات البريطانية من العراق بل والقوات الأميركية في ظرف عام. فقد شن العدوان على العراق بأكذوبة أسلحة الدمار الشامل أو القضاء على الإرهاب. واتضح أنه لا وجود لأسلحة الدمار الشامل إلا في إسرائيل التي لم يغزها أحد. وبدلا من القضاء على ما يسمى الإرهاب زاد وتحول إلى مقاومة شعبية شاملة. كما أعلنت إيطاليا على استحياء أنها تود أيضا سحب القوات الإيطالية من العراق بعد أن قتلت القوات الأميركية ضابط الأمن الإيطالي وهو في صحبة الصحفية الإيطالية التي أفرج عنها الخاطفون، تقديرا لدورها في تغطية أخبار المقاومة.
يفكر الأعداء الآن مرات قبل تكرار النموذج العراقي أو نموذج آخر على سوريا ولبنان وإيران. لم يعد الوطن مستباحا كما كان لأميركا وبريطانيا وإسرائيل يفعلون فيه ما يشاءون. أصبحت له حرمة، ليس من نظم الحكم التي يؤيد بعضها العدوان الأجنبي على الآخر ولكن من الشعوب ومن مقاومتها للعدوان. العدو هو المستباح. وهو الذي يحل دمه وتجب مقاومته. إن العدو لا يعرف إلا القوة ولا يستطيع إلا هي. وقد استعملت المقاومة لغته "لا يفل الحديد إلا الحديد"، "ما أخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة". ومن ثم ينتهي لوم الضحية ويبدأ التوجه إلى الجلاد.
لقد اكتسب الشعب العربي المناعة.