منذ أن قام الأسلاف المبكرون للبشر، بتقشير الحيوانات الصدفية على امتداد الساحل الجنوبي الفرنسي منذ قرابة 300 ألف عام، أصبح الطعام مقياسا من المقاييس الدالة على ثراء البيئة البحرية. وفي الوقت الحالي، نجد أن فكرة الثراء البيئي البحري هذه تتوسع باستمرار، كما أنها تشهد بشكل متزايد ظهور مكونات جينية محتضنة من قبل كائنات نادرة توجد في أعماق المحيطات، وتعيش وتترعرع في بيئات كان يعتقد من قبل أنه يستحيل أن تكون قادرة على العيش فيها.
ومنذ أن بدأت شركات التقنية الحيوية، في التطلع إلى تلك الكائنات الحية، باعتبارها مصدرا محتملا للمواد الخام التي تستخدم في صناعة الأدوية وغيرها من المنتجات، تصاعدت النداءات الداعية إلى سن قواعد تنظيمية لضمان الفوائد التي يمكن استخلاصها من جينات الأعماق البحرية ليعم خيرها على الجميع. ويتعين الاعتراف بأن معظم شركات التقنية الحيوية وشركات الأدوية، لم تشرع بعد في التنافس على استغلال "الفتحات القاعية الحرارية" والجبال البحرية، وغيرها من البيئات الفريدة لاستخراج تلك الكائنات، ورؤية ما إذا كان يمكن الاستفادة منها أم لا.
والغالبية العظمى من عمليات التنقيب البحري البيولوجي التي يتم إجراؤها هذه الأيام، تتم في المياه الضحلة الواقعة ضمن حدود المائتي ميل بحري الخاصة بكل دولة. مع معرفة علماء الأحياء البحرية للمزيد من المعلومات عن بيئات القيعان البحرية، فإن الأمر المرجح هو أن يتزايد الاهتمام بالاستغلال التجاري لتلك البيئات. والتحرك قدما لإعداد بعض الخطط التنظيمية هو الوسيلة المضمونة لاستباق ذلك. وسيكون إعداد مثل هذه الخطط علاجا ملائما لعدم الوضوح التنظيمي الذي يكتنف هذا الموضوع، والذي يحول بين بعض الشركات ومجموعات البحث، وبين مواصلة عملية التنقيب البيولوجي في قيعان البحار والمحيطات بشكل أكثر فعالية. حول هذا يقول د. جونسون: "إن التعامل مع الموضوع الآن سيكون أسهل كثيرا من التعامل معه عندما تحصل المصالح التجارية على حقوق البحث عن المواد الجينية في قيعان البحار والمحيطات".
والموضوع في الحقيقة يذكرنا بالسجال الذي دار في الماضي حول حقوق التعدين والبحث عن بعض المعادن مثل المنجنيز في قيعان المحيطات، والذي شكل جزءا من السجال العام الذي مهد لظهور ما يعرف بـ"القانون الدولي لمعاهدة البحار" عام 1982. ومن المعروف أن عملية استخراج المعادن من قيعان البحار والمحيطات تعتبر من العمليات الباهظة التكلفة. ويرى مدير "مركز السياسة البحرية في معهد وودز هول للدراسات الأوقيانوسية" بولاية ماساشوستس د. سولو أن" التوقعات الحقيقية للتنقيب البيولوجي في أعماق البحار والمحيطات تعتبر محدودة نسبيا وخصوصا في المديين القصير والمتوسط".
ويقول إن هذه العملية تختلف عن عملية التعدين اختلافا كبيرا. فإذا ما كان الهدف المقصود هو بكتيريا المياه العميقة مثلا، فإن هذه البكتيريا يجب حفظها في مزارع خاصة بمجرد سحبها للسطح، حتى يمكن القيام بعد ذلك باستخراج المعلومات الجينية التي تحتوي عليها. ومن المعروف أن المحيطات تمثل 70 في المئة من مساحة كوكب الأرض، بمتوسط عمق يزيد عن ميلين. وليس من المستغرب والحال كذلك، أن تحتوى المحيطات على معظم مظاهر التنوع البيئي على الكوكب.
ويمكن لجهود العلماء أن تمدنا بفهم أعمق للمصاعب المرتبطة بعملية التنقيب البيولوجي في قيعان البحار والمحيطات. فالعالم "دووج بارتليت" على سبيل المثال يركز في عمله على البكتيريا المستخرجة من الخنادق المحيطية، وهي عبارة عن أخاديد عميقة توجد في قيعان المحيطات. ويقول بارتليت الذي يعمل باحثا بـ"معهد سكريبس للعلوم الأوقيانوسية" في "لا جولا" بولاية كاليفورنيا:"إن القواعد التي تحكم وجود تلك البكتيريا تختلف تمام الاختلاف، عندما نقوم بمقارنتها بتلك التي يعرفها البشر. فدرجات الحرارة في البيئة التي توجد فيها تكاد تقترب من التجمد والضغط بها هائل، علاوة على أنها تعيش في ظلام دائم، كما أن الطعام الذي تحصل عليه متنوع". ودراسة تلك الكائنات من المشروعات الباهظة التكاليف. فتأجير السفن اللازمة لسحبها من الأعماق يمكن أن يكلف 10 آلاف دولار أميركي يوميا. وبعد الانتهاء من سحب البكتيريا إلى السطح فإنه يجب العمل على تجهيزها بسرعة لتربيتها في مزارع خاصة حتى لا تموت. وبعد أن يتم الانتهاء من ذلك فإن أطباق التربية المسطحة التي يتم حفظ تلك الميكروبات فيها، يجب أن توضع بدورها في خزانات مصنوعة من الصلب والتيتانيوم، لتوفير درجات الحرارة والضغط التي اعتادت تلك البكتيريا عليها.
وعملية معالجة العينات وتحليلها تستغرق بعض الوقت وتكلف الكثير من الأموال. ويعلق "بارتليت" على ذلك بقوله:"إذا كان كل ما سنقوم به هو البحث عن الحمض النووي فإن هدفنا سيكون محدودا... أقول ذلك لأن هناك أبحاثاً لها أهداف أكبر، وتقدم نتائج أفضل. بيد أن الوقت المطلوب لذلك سيكون طويلا، كما أن التكاليف ستكون باهظة".
وفي الحقيقة أن عمليات التنقيب عن تلك الكائنات ح