سيحفظ التاريخ للزعيم السوداني الراحل جون قرنق دي مابيور مآثر كثيرة في سيرته العسكرية والسياسية والفكرية. لكن مأثرته التاريخية التي ستبقى هي أنه وهو السياسي القادم من جنوب البلاد قد تجاوز السيرة المتكررة للسياسيين الجنوبيين منذ الأربعينيات من القرن الماضي والمتمثلة في تكوين أحزاب سياسية جنوبية تحمل اسماً ومضموناً صفة "الجنوبي". عندما أعلن عن تأسيس الحركة الشعبية لتحرير السودان وأذاع ميثاقها "المانيفستو الأول" تجاوز قرنق فكرياً الإطار الجنوبي وطرح حركته كحزب قومي سوداني يناضل من أجل تحقيق العدل والمساواة لكل المقهورين والمهمشين في كل أقاليم السودان. وسعت الحركة منذ بداياتها الأولى لتوسيع إطار عضويتها من كافة شرائح المجتمع السوداني. وإذا كان قدر قرنق والحركة أن نواتها الأولى قد تشكلت من مواطنين من الجنوب فإن ذلك لا يبخس من قدرته وسعيه الجاد أن يضم في إطار الحركة ويشرك معه في القيادة وطنيين من مختلف أنحاء السودان. إلى أي مدى نجح الراحل جون قرنق في حياته في تحقيق فكرة قومية الحركة الشعبية فإن ذلك متروك حكمه للتاريخ ولمسيرة الحركة (الحزب) السياسية والتنظيمية بعد رحيله الفاجع.
من قبل تأسيس الحركة الشعبية وإعلان نفسها كحركة لتحرير السودان، ذات رؤية متميزة لبناء "سودان جديد" على أسس جديدة, عجزت القيادات السياسية الجنوبية -إلا قلة منها- حتى في عهود الديمقراطية، عن الخروج من الإطار القديم، إطار الحزب الجنوبي الذي فشل في أن يرى الجامع الأكبر بين كل أعراق السودان وأقاليمه الجغرافية، وأن يستنبط بالتالي البرنامج الوطني التقدمي الوحدوي, الذي يحقق طموحات وآمال كل المقهورين والمهمشين في السودان والجنوبيين من بينهم, وإن كان ظلما تاريخي أكبر قد وقع عليهم. لذلك تبقى مأثرة الزعيم السوداني جون قرنق دي مابيور - في اعتقادي- الكبرى أنه قد حرر نفسه والحركة الشعبية من تلك النظرة السياسية- الفكرية القاصرة, التي كانت لا ترى في أزمة السودان إلا وجهها المسمى دائماً بالمشكلة الجنوبية.
من هنا ومن هذا المنطلق رأى كثير من السودانيين - من غير أعضاء الحركة الشعبية- في شخص جون قرنق الزعيم الوطني السوداني الذي يمكن أن يثقوا في صدقه وجديته للنضال المستمر من أجل وحدة السودان الطوعية, ومن أجل سودان جديد يسوده العدل والمساواة والكرامة الإنسانية وتتحقق فيه التنمية والتقدم لكل بنيه ولكل أقاليمه الشاسعة الواسعة. ولعل سلوك الناس -عامة الناس- نحوه في الأسابيع القليلة الماضية، والآمال الكبيرة التي دفعتهم إليه خير شاهد على ذلك.
في ساعات الفواجع الكبرى مثل رحيل الزعيم قرنق يحتاج الناس أكثر وأكثر إلى إعمال العقل والحكمة. والسودانيون جميعاً وبخاصة أعضاء الحركة الشعبية وقياداتها مطالبون بأن يستلهموا من سيرة جون قرنق ونضاله تلك المأثرة الباقية. أن يتوحدوا ويتحدوا من أجل ترسيخ وتأكيد السلام الوطني, المهمة التي تعتبر آخر المهمات الجليلة التي أنجزها في حياته. وألا يتركوا للنزق والطيش السياسي سبيلاً ينفذ من خلاله لتمزيق أشلاء الوطن الذي أصبحت مهمة جمعها أكبر المهمات الوطنية.
إن أفضل ما نقدمه لجعل ذكرى الزعيم السوداني جون قرنق دي مابيور باقية وحية هي العمل الذي لا يفتر من أجل جعل شعارات السلام والوحدة الطوعية ومترادفاتها برامج عمل وطنية يخرج بها السودان من سنوات الضياع والموت والاقتتال. وإن استعجال تنفيذ الخطوات الدستورية اليوم قبل الغد أمر ضروري حتى لا تحدث فجوة فراغ تتيح للطامعين فرصة للعبث السياسي.
عبدالله عبيد حسن