تناولت بعض أعمدة الرأي أمس بالتعليق موقف إحدى مستشفيات الدولة التي حددت إدارتها ساعتين يوميا فقط لتضميد الجراح، واستغرب الكتاب - ولديهم كل الحق - صدور هذا الموقف من مستشفى يتباهى بحصوله على شهادة جودة عالمية. والأكثر غرابة أن الكثير من مؤسساتنا الخدمية تعاني الداء ذاته، بمعنى أن الصورة تبدو براقة من الخارج والأرقام والإحصاءات التي تنشرها إدارة المؤسسة تشير إلى كم هائل من الخدمات، وربما يذهب بعضها إلى أكثر من ذلك فيتحدث عن معدلات رضا تفوق الوصف من جانب الجمهور، ولكن ملامسة الحقيقة ومعاينتها على أرض الواقع قد تقود إلى عكس هذه الأرقام أو على الأقل تسحب منها جانبا كبيرا من صحتها!.
المشكلة تتلخص في أن الكثيرين يبحثون عن "النظام" البراق على الورق، وأن التخطيط يتم في غرف مغلقة وربما من غير المتخصصين والمعنيين والملمين بكل تفاصيل وجزئيات القضايا والملفات الفرعية، وبالتالي تصدر قرارات وترسم سياسات وتنشر تعليمات لا تلامس احتياجات الواقع ولا تتجاوب معها. فالنظام الإداري أو الروتين له وجهان، ولكن في أحيان كثيرة يتم التركيز على جانبه السلبي المغرق في التعقيد والتشابك. وبالطبع فإن أي تأثيرات سلبية لأي قرارات عشوائية تصدر وفقا لمنطق "التجربة والخطأ" تصبح أكثر خطورة وأشد وقعا وألما فيما لو تعلق الأمر بقطاعات خدمية بالغة الحيوية مثل الصحة والتعليم.
جميل أن تسعى مؤسساتنا ودوائرنا إلى تطبيق معايير الجودة العالمية في مجال عملها، وجميل أيضا أن يكون هناك إحساس عالٍ بأهمية معايير الجودة وضرورة الحفاظ عليها، خصوصا في القطاع الصحي، ولكن الأجمل من كل ذلك أن تترجم هذه الاهتمامات إلى خطط وإجراءات تتماشى مع احتياجات الجمهور وتلبي مطالبه وطموحاته، وإلا فما هو مردود أي نظام إداري يتجاهل راحة المواطن ولا يعمل على تلبية احتياجاته؟!.
المشكلة إذاً تتلخص في وجود فجوة بين التخطيط والتطبيق، فالخطط ترسم على الورق وتتعامل مع فرضيات نظرية تخضع الواقع للنظريات والاحتمالات وتتجاهل الحقائق الميدانية والظروف اليومية والحياتية واحتياجات الجمهور والبيئة المحيطة التي يفترض أنها هدف أو متلق لهذه الخدمة أو تلك، وهكذا يتشبث القائمون على التنفيذ بخطط إداراتهم وتقدم الخدمة على الورق في حين يهدر حق الجمهور في الحصول عليها بشكل فعلي.
ولعل أحد أسباب وجود الفجوة التي تحدثنا عنها سلفا واستنساخها في كثير من الجهات الخدمية، أن هناك تغييبا للدراسات الميدانية التي يفترض أنها تمثل بنية تحتية ضرورية تسبق أي تخطيط أو قرارات تنفيذية لضمان التناغم بين خطط المؤسسة وأهدافها من جهة واحتياجات الجمهور من جهة ثانية. وأكثر ما يؤلم في هذه الأخطاء المتكررة أنها لا تجد من يعالجها فوريا ويحتمي الجميع بحائط "النظام والتعليمات" سواء بسبب المركزية الشديدة في اتخاذ القرار، أو بسبب تمسك الموظفين بقواعد بيروقراطية بالية والاحتماء بها متجاهلا معاناة البشر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن نشرة "أخبار الساعة" الصادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية