عبر قرنين من الزمن تعامل العرب مع الكثير من الأكاذيب والأساطير التي أفرزتها مجتمعات الحضارة الغربية. في القرن التاسع عشر ادّعت أوروبا أنها جاءت لنشر المدنيّة والقيم الكبرى لفكر الأنوار. لكن ما إن مرّت بضع سنوات حتى تكشّف الوجه القبيح وراء تلك الأقنعة متمثّلاً في استعمار مستغلٍّ ظالم متوحّش. عبر القرن العشرين عرضت علينا أوروبا مجموعة من الأنظمة الإيديولوجية التي بشّرت العالم بأنها الطريق إلى بناء جنّة هذه الأرض. ولقد كانت الإيديولوجية الشيوعية هي الأكبر والأبرز. لكن ما إن مرّت بضع سنين إلا وتكشّف واقعها في مذابح ستالين واحتلال بلدان كثيرة وفي سقوطها المذهل في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي. ومن قبلها وبعدها تمّ عرض النظام الليبرالي الديمقراطي السياسي. لكن حتى هذا النظام، الذي سوّقه أمثال الكاتب الأميركي فوكوياما كآخر أنظمة التاريخ التي ستسود عالمنا إلى الأبد، يتعامل اليوم الإنسان الغربي معه بكثير من الشكوك والحذر والازدراء للسياسيّين القائمين عليه، هذا الإنسان الذي ما عاد يثق في هذا النظام ويبتعد عنه بالابتعاد عن صناديق الاقتراع وبعدم الانضمام للأحزاب والنقابات والمظاهرات.
وكبضاعة فاسدة في بلد المنشأ تحاول أميركا أن تصدّرها إلينا تحت نفس الرّاية إياها, راية الاستعمار. لكنّها في هذه المرة بضاعة مخلوطة ببضاعة العولمة المسمّاة نظام حرية السوق الاقتصادي، الذي بدوره يلاقي رفضاً في بلد المنشأ من قبل النقابات وملايين المهمّشين من الشباب والعاطلين عن العمل. في بلاد الغرب ومن يدور في فلكها يختلط اليوم الحابل بالنابل وتلفُّ الحيرة تلك المجتمعات. الشيوعية ومعها الاشتراكية سقطت. النظام الديمقراطي فيه نواقص مفصليّة وما عاد الناس يثقون في مؤسّساته. السّاسة ملعونون ومحتقرون. الليبرالية الجديدة تحتضر. الأصولية الدينية المتزمّتة تنتعش في كثير من أجزائه. اليمين السياسي المتطرف يعود إلى السّاحة. فما هو الدّين الجديد الذي تتوجّه إليه الأنظار كمنقذ لمجتمعات حائرة وحضارة مريضة؟
الدِّين الجديد هو الإيمان المطلق الأسطوري بالتكنولوجيا والعلوم التي وراءها. هل لدينا في الغرب مشاكل بيئية وعماليّة واقتصادية وأمنيّة من جرّاء بعض أنواع التكنولوجيا؟ إذن علينا بناء نظم تكنولوجية جديدة لتصحيح مشاكل الأولى. هل لدينا صراعات اجتماعية وأمراض جنسّية ومدن مكتظّة وجيوب فقر؟ إذن علينا بتكنولوجيا جديدة تحلّ كل تلك المشاكل. مزيد من التكنولوجيا، لا مزيداً من تعديل أنظمة البشر السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا مزيداً من تعديل أخلاق وأفكار وعادات البشر، وليس مزيداً من السيطرة على الفساد وتعفُّن الضمائر.
نحن العرب سنكون وجهاً لوجه أمام الدّين الجديد الذي، كالعادة، لا نستعدُّ له. عبر القرنين الماضيين تعامل مفكِّرونا وقادة مجتمعاتنا مع كل ما طرحه الغرب من نظم وإيديولوجيات سياسية واقتصادية واجتماعية, ونظرة واحدة على الساحة الثقافية والإعلامية الغربية ترينا أن الكتابات والنقاشات مشغولة بأديان وأساطير غربية ماضية تنتمي إلى فترات سابقة من الإيمان الغربي. المطروح في الغرب اليوم وبشدّة هو موضوع التكنولوجيا وما وراءه من علوم ومعرفة كأفضل الطرق لحلّ مشاكل الإنسان, وهو موضوع يبعث على القلق والرُّعب والمخاطر الكبرى. فالعلوم والتكنولوجيا تضع في يد الإنسان، الغربي على الأخص، قوة هائلة هو غير مؤهل لاستعمالها بمسؤولية تماماً كما لم يكن في السابق مؤهّلاً لاستعمال رسالات السماء والأفكار الإنسانية العظيمة بحكمة وفطنة. ولهذا السبب فإن الموضوع خطير وبالغ الأهمية لمستقبلنا.
من هنا الأهمية لأن تبدأ الساحة الثقافية والإعلامية العربية بمناقشة هذا الموضوع (هذا الدين الغربي الجديد) وذلك قبل أن يطرحه الغرب علينا كما فعل بأديانه وأساطيره الأرضية وأفكاره في السابق. وفي هذه المرة هل يستطيع الإنسان أن يأمل بأن يكون لنا موقف ذاتي من موضوع خطير كهذا, دون الانتظار لسنين حتى يكون الغرب قد عايش الموضوع وخبره ثم اتخذ موقفاً نهائياً منه، حتى إذا ما وصلنا إلى المائدة اكتفينا بفتات الطعام.