سواء كان حلّ الجيش العراقي قراراً استراتيجياً ماكراً اتخذته واشنطن، أو خطأ تاكتيكياً غبياً ارتكبه حاكم الاحتلال بول بريمر فإنه انتهاك للقوانين الدولية وميثاق الأمم المتحدة، وجريمة ضد الإنسانية. جريمة قضت بين عشيّة وضحاها على مصدر رزق مليون إنسان، وترتب عليها قتل وأسر وتشريد قيادات وعلماء ومهندسي قوات حفظ الأمن والسلام لأكثر من 24 مليون نسمة، وتدمير معدات جيشهم وتجهيزاته ومعسكراته ومستشفياته وأكاديمياته ومراكز بحوثه العلمية والتقنية، وتقويض الكيان السياسي والمعنوي لبلدهم، وهدم هياكله الارتكازية، ونهب ثرواته المادية، وموروثه الحضاري، وقتل وجرح مئات الآلاف من سكانه المدنيين؟
والآن كيف يمكن إعادة بناء جيش عتيد عمره 85 عاماً؟ ومتى، ومن يقوم بتشكيله من جديد؟ ما وظائفه، وعقيدته العسكرية، ونظام المعركة، التي يقوم عليها؟ وهل تقتصر مهماته على الدفاع عن الأمن الخارجي للبلاد، أم أمنها الداخلي أيضاً؟ وهل سيكون جيش متطوعين، أم يقوم على أساس مزدوج طوعي إلزامي، أم يعتمد الخدمة الإلزامية العامة، التي اتّبعها منذ تأسيسه في أول يوم من عام 1921؟ وكم يبلغ تعداد القوات المسلحة وفيالقها وفرقها وأفواجها، ومؤسساتها التدريبية والتعليمية؟ وما تشكيلات قوات الجيش والطيران والبحرية، وكيف تتوزع خريطة معسكراتها وقواعدها؟ وما علاقات الجيش بالسلطة السياسية، ومن يرسم جدول قياداته وتوزيعها الجغرافي، وهل يتولى مناصب القيادة العليا للقوات المسلّحة، ووزارة الدفاع مدنيون أم عسكريون؟ وممّ تتكون هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة؟ وما مصادر تسليح الجيش؟
هذه تقريباً أهم المسائل، التي ناقشتها "اللجنة العسكرية" في "ندوة مستقبل العراق"، التي نظمها "مركز دراسات الوحدة العربية" في بيروت للفترة ما بين 24 و28 من الشهر الماضي. وأقول تقريباً لأن "اللجنة العسكرية" تعهدّت بعدم الإعلان عن بعض فقرات عملها، بما في ذلك أسماء أعضائها العشرة، الذين عمل معظمهم سابقاً في الجيش العراقي، وهيئاته الأكاديمية. ولم تدرج توصيات "اللجنة العسكرية" موضوع علاقات الجيش بالمقاومة المسلحة الجارية، رغم أن ورقة العمل، التي ناقشتها أقرّت بأن المقاومة امتداد مادي ومعنوي للقوات المسلحة العراقية، وتستمدّ شرعيتها، وفق القوانين الدولية من حقيقة أن الجيش العراقي لم يعقد مع الغزاة وثيقة استسلام، أو هدنة، أو صلح، ولم يوقع حتى اتفاقاً لوقف إطلاق النار. الاتفاقان الوحيدان لوقف إطلاق النار، اللذان عُقدا في الموصل والأنبار غير مُلزمين، حيث وقّع عليهما قادة عسكريون محليون غير مخوّلين بعقد اتفاقات مع العدو المحتل.
وناقشت "اللجنة العسكرية" تفاصيل "العملية الشوهاء الترقيعية"، التي يقوم بها الغزاة والمتعاونون معهم لبناء "جيش جديد" هدفه استيعاب ميليشيات الأحزاب، وتكوين قوة بوليسية للتصدي لما تُسمى "عمليات الإرهاب". وشدّدت اللجنة على أن إعادة تشكيل الجيش تقتضي استدعاء القوات المسلحة المسرحة بهيكليتها السابقة وأطرها القانونية، واستخدامها كنواة للجيش الجديد. بذلك يمكن الحفاظ على حقوق منتسبي القوات المسلحة، وتأمين الاستمرارية الزمنية للجيش، واحتساب خدمة العسكريين لأغراض التدرّج والتقاعد. وكشفت اللجنة عن حقيقة بقاء أربعة فيالق عسكرية سالمة، واحتفاظها بقدراتها القتالية، رغم القصف الجوي الماحق للغزاة. كان يمكن لهذه الفيالق الإمساك بزمام الأمور والحيلولة دون الفوضى وعمليات النهب والتدمير، ومساعدة الأمم المتحدة على القيام بمهماتها في استعادة أمن العراق، وتأمين سلامة العراقيين وشعوب المنطقة.
وتستطيع اليوم العناصر القيادية للجيش المنحل تسنّم المناصب الرئيسية والاستعانة بـ"المَعين المتيسر في القوات الجديدة، بعد عملية تحقق وانتقاء دقيقين"، وفق أسس حدّدتها ورقة عمل اللجنة، التي أعدّها اللواء الركن المتقاعد الدكتور عبد الوهاب القصاب، عضو هيئة رئاسة الأركان العامة للقوات المسلحة، ومعاون قائد سلاح البحرية العراقية سابقاً، والباحث حالياً في مركز الدراسات الدولية في جامعة بغداد. تستجيب هذه الأسس لمتطلبات مواجهة التهديدات الخارجية والداخلية، وتقوم على مبدأ "ولاء الجيش للعراق فقط، وانتماؤه للشعب العراقي، ثم للأمة العربية، ومرجعيته هي مرجعية الدولة العراقية، التي تتولى مسؤولية تشكيله وتجهيزه وتسليحه". ولا سلطة للأحزاب السياسية، أياً كانت على الجيش، الذي "يمثل القوة المسلحة والمنظمة الوحيدة المسموح لها بالتعامل مع الشأن الأمني الوطني". وحدّدت الورقة جدولاً زمنياً لإعادة تنظيم الجيش بشكل متكامل ومتوافق مع درجة تكامل التشكيلات وتجهيزها وتسليحها وتدريبها وصولاً إلى استعدادها القتالي.
ورسم اللواء الركن القصاب أنماط التهديدات "متعددة الأوجه" التي تعترض عملية إعادة تشكيل الجيش. أنماط عدة "يكفي كل منها لكي يشكل عنصر عرقلة ومنع وإحباط عملية بناء الجيش المطلوبة. والسمة الأخرى التي تتصف بها أنماط التهديد هذه أن أجنداتها تتغير مع تغير مظاهر ع