ليس من النادر أن نسمع اليسار يوجه اللوم إلى الماضي الإمبريالي للدول الغربية في العالم الإسلامي ويحمله مسؤولية تفشي الإرهاب. وهو اللوم الذي يتفق معه أغلب الإرهابيين أنفسهم. وقد يكون الأمر فعلا صحيحا لو اعتبرنا أن الإرهاب مجرد محاولة لانتقام ضحايا الإمبريالية في العالم الإسلامي. فباكستان ظلت تابعة للحكم البريطاني في الهند حتى 1947. كما أن الشرق الأوسط العربي ظل تحت الحماية الأوروبية من عشرينيات القرن الماضي إلى غاية الخمسينيات منه، بل إن مصر وإيران استمرتا لفترة أطول تحت نير الهيمنة الغربية. وبالمثل خضعت المملكة العربية السعودية للحماية الأميركية طيلة الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. وبالطبع تعرضت فلسطين للتقسيم إثر القرار الأممي لسنة 1948 حيث منح نصف فلسطين إلى ما يسمى حاليا بإسرائيل.
وبالرغم من ذلك التاريخ الاستعماري، إلا أنه لا توجد سوى صلة غير مباشرة بين الإمبريالية كظاهرة سياسية معقدة وبين صعود الإرهاب في عالمنا اليوم. فمنفذو التفجيرات من الشباب المسلم لم يعانوا من الإمبريالية، بل استفاد معظمهم من الشعور بالذنب لدى الغرب إزاء ماضيه الاستعماري ففتحت لهم الفرص الاقتصادية والتعليمية في المجتمع الغربي. كما أن عائلاتهم عاشت في المهجر حياة أفضل من تلك التي عرفتها في أرض الوطن. وبالنظر إلى الدول التي ينحدر منها المهاجرون الجدد فإنه قلما نجد منها من تعرض لتدخل غربي في السنين الأخيرة.
غير أن هؤلاء الشباب الذين يفجرون أنفسهم هم ضحية لما نسميه حاليا بالعولمة، لا سيما وأن الإمبريالية لم تكن سوى عولمة جاءت قبل أوانها. فالعولمة بشكلها القديم كانت محاولة لعقلنة الأسواق ووسائل الإنتاج في المجتمعات قبل الصناعية، حيث استفادت منها الشركات البريطانية والهولندية التي استثمرت في الأسواق الآسيوية. وقد كانت العولمة في صورتها القديمة غير مكترثة بالآثار السلبية لفتح الأسواق الجديدة أمام السلع الأوروبية لأن همها الوحيد كان هو إرضاء المطامع الغربية المتصاعدة. ولست هنا بصدد التقليل من مساوئ الاستعمار المباشر أو تجارة العبيد في إفريقيا، حيث تعرضت الموارد الإفريقية للنهب وألحقت الأضرار بالاقتصاديات الآسيوية وصناعة النسيج الهندية، بل أعتقد أنه من الضروري وضع كل تلك الوقائع في سياق تاريخي شامل يفسر لنا ما يجري في الحاضر. كما يجب علينا أن ندرك أن سياسة الحكومات الاستعمارية التي انعكست سلبا على المجتمعات المحلية في فترة معينة من الماضي ظلت آثارها السيئة مستمرة لعدة أجيال لاحقة. وهذا ما يدفعني إلى القول إن تداعيات الحرب على العراق لن تتكشف بالنسبة للولايات المتحدة أو العراقيين أنفسهم إلا بعد انقضاء عقود عدة على هذه الحرب.
ولحد الآن يظل غائبا السبب الحقيقي وراء إقدام الانتحاريين على تنفيذ تفجيرات لندن الأخيرة، أو تلك التي حصلت في أوروبا والولايات المتحدة. فهل يقومون بذلك بوحي من التطرف الديني؟ أم بوحي من شعور طاغ بالظلم والغبن ورغبة في إبداء التعاطف مع المجتمعات التي ينحدرون منها؟ لكن مهما اجتهدنا في تقصى العوامل المنطقية والموضوعية التي تسهم في تفسير دوافع الانتحاريين فإن ذلك على الأرجح لن يؤدي للوصول إلى أية نتيجة. فما يميز هؤلاء الشباب هو انصياعهم للعاطفة المشحونة والأفكار المشوشة يؤججها الخطاب الديني المتشدد الذي يروج له بعض الوعاظ.
ولعل إدراك هذه الحقائق بالإضافة إلى الحسابات الانتخابية ما دفع إدارة بوش إلى تغيير سياستها في العراق وابتكار توصيف جديد لما يجري هناك. فقد صارت الحرب في العراق تقترن عند الإدارة الأميركية "بالصراع العالمي ضد التطرف العنيف" وهو نفس التوصيف المعتمد من قبل وزير الدفاع دونالد رامسفيلد والمستعمل من قبله في المؤتمرات الصحفية أو في التصريحات التي يصدرها البنتاجون. وتعتبر هذه العبارة ترجمة دقيقة لتوصيف آخر رائج في بعض دوائر وزارة الدفاع يطلق على الحرب في العراق والمتمثل في: "العدو العالمي" حيث تبدو واضحة النبرة الغيبية أو اللاهوتية في العبارة بنفس القدر الذي كانت فيه واضحة كذلك في تلك العبارة التي بدأنا بها الحرب وهي "الحرب على الإرهاب".
غير أن المشكلة التي تواجهها الإدارة الأميركية هي مسألة تحقيق النصر التي يفترض أن تنتهي بها جل الحروب، خصوصا وأن الرئيس بوش تعهد مرارا بإحراز ذلك النصر في حربه على الإرهاب. كما أن وزير الدفاع كان قد تعهد بإلحاق الهزيمة "بالمحاربين الأجانب وبقايا النظام البائد في العراق". بيد أن حرباً عالمية ضد التطرف ستستغرق وقتاً طويلاً وربما كان ذلك هو السبب الذي دفع إدارة بوش إلى إطلاق ذلك التوصيف على الحرب بهدف إعداد الناخبين الأميركيين لكي يتقبلوا أن الحرب في العراق قد تستمر لوقت أطول مما كانوا يتصورون. وقد تزامن الإعلان على ذلك التوصيف الجديد للحرب الدائرة في العراق مع الإفراج عن بعض وثائق البنتاجون ذات الطابع التقييمي والتي أفادت بأن القوات العراقية ما زالت غير مستعدة للقيام بعمليات عسكرية بمف