تتناول معظم التحليلات الخاصة بالحروب القضايا المتعلقة بالجوانب العسكرية والسياسية، في الوقت الذي تنال قضايا أخرى أكثر أهمية، كالقضايا الاقتصادية والمكاسب المترتبة على الحروب حيزاً أقل من الأخبار والتحليلات العامة.
ولا تستثنى الحرب الدائرة في العراق حاليا من ذلك، فالتداول والمتابعة اليومية للأحداث تركز على مستقبل الحكم في العراق والصراع بين الطوائف والانتخابات والقتل اليومي للمدنيين الأبرياء وتوضيح القضايا الخاصة بأسلحة الدمار الشامل، والتي يبدو أنه لا وجود لها وفق قناعة معظم المراقبين.
خلف هذا الستار السميك من الأحداث العسكرية والسياسية والأمنية تجري أحداث أخرى بعيدة عن الأعين نسبيا، يتم من خلالها توزيع غنائم الحرب، حيث يسعى المحافظون المتنفذون إلى الحصول على حصة الأسد، باعتبارهم أكثر الناس حماسا للحرب.
وحتى لا نبقى ضمن العموميات، لنأخذ على سبيل المثال أوضاع شركة "هاليبرتون" والتي تحسب على الجناح المحافظ في الإدارة والتي حققت مكاسب اقتصادية كبيرة من عقود المشتريات وإعادة البناء في العراق. شركة "هاليبرتون" هذه حصلت منذ انتهاء الحرب على عقود تتجاوز قيمتها عشرة مليارات دولار، كان آخرها العقد الذي حصلت عليه في الأسبوع قبل الماضي والمقدر بـخمسة مليارات دولار، ونتيجة لذلك حققت حتى الآن أرباحاً صافية تتجاوز 200 مليون دولار عن أعمالها في العراق، مما أدى إلى ارتفاع أسهمها في سوق الأوراق المالية في نيويورك بأكثر من 60% منذ انتهاء الحرب، وهذه نسبة كبيرة لم تحققها أي شركة أخرى، بما في ذلك الشركات ذات الأداء العالي والأرباح الكبيرة.
ولا يختلف وضع الشركات الأخرى التي يتزعمها قادة الحروب عن وضع شركة هاليبرتون, فالعديد من الشركات الغربية تعيش فترات ازدهار نادرة، فعقود تنفيذ المشاريع تتساقط عليها، وبالأخص من البلدان التي تحاول إثبات حسن نيتها بعد أن وجهت إليها بعض التهم, كبلدان شمال أفريقيا.
أما الشركات الأخرى، كـ"بكتيل" و"بوينغ" و"لوكهيد مارتن"، فإن حصصها من غنيمة الحرب تقدر بمليارات الدولارات، مما يعوضها عن الخسائر الناجمة عن المنافسة والركود، وبالأخص بعد التغير الكبير الذي حدث على أساليب الحرب الحديثة والتي يغلب عليها طابع الحرب الالكترونية الموجهة بالأقمار الصناعية وانحسار استخدام الأسلحة التقليدية.
قادة الحروب في العالم لا يختلفون كثيرا عن قادة المليشيات أثناء الحروب الأهلية, كالحرب الأهلية اللبنانية والتي استمرت 16 عاما وأتت على الأخضر واليابس في لبنان. فالحرب الحالية تدمر كل يوم مرافق البنى التحتية ويذهب العشرات من الأبرياء العراقيين ضحية لأعمال العنف والتفجيرات العشوائية وتصفية الحسابات التي لا تفرق بين ما هو مدني وعسكري.
المكاسب الاقتصادية يمكن تحقيقها في ظل السلم من خلال المنافسة والتقدم العلمي والتقني، كما يمكن تحقيقها من خلال شن الحروب وتدمير البنى التحتية للمنهزم. ففي سنوات الحرب الباردة وبسبب توازن القوى العسكرية بين المعسكرين الغربي والشرقي في ذلك الوقت, خاض المعسكر الغربي صراعا اقتصاديا سلميا مريرا وطويلا مع المعسكر الشرقي، حيث خسر المعسكر الأخير هذه الحرب في نهاية المطاف بسبب اهتمامه بالتقنيات العسكرية بصورة أساسية وإهماله للتقنيات المدنية المرتبط بالتنمية الاقتصادية وبمستويات الناس المعيشية.
لقد تمخضت عن الحرب الباردة نتائج اقتصادية وسياسية وعسكرية إيجابية للطرف المنتصر وحسمت العديد من المسائل العالقة في العلاقات الاقتصادية الدولية، في حين فقدت اقتصاديات المعسكر الشرقي زخم نموها الاقتصادي وتراجعت مستويات المعيشة إلى حدها الآني. من ضمن هذه النتائج, الاتجاه الخاص بإعادة ترتيب العلاقات الدولية وتحقيق مكاسب اقتصادية وإعادة توزيع ثروات العالم ومصادر الطاقة عن طريق القوة العسكرية، خصوصا وأن موازين القوى اختلت بصورة خطيرة منذ انتهاء الحرب الباردة.
لقد توقع الكثير من المراقبين أن توجه موارد العالم مع انتهاء صراع القطبين في سنوات التسعينيات من القرن الماضي إلى تنمية اقتصاديات مختلف بلدان العالم, وأن توجه الجهود أيضا للقضاء على الفقر والتخلف والأمراض. إلا أن تحالف الفكر المحافظ مع قوة رأس المال الشرس خرج بنظرية صراع الحضارات والتي لا تمت للنوايا الحسنة بصلة، دافعين بذلك شعوب العالم كافة إلى أشكال أخرى من الصراعات الخطيرة والمدمرة.