طوال 30 عاما أو أكثر، ظل الجيش الجمهوري الأيرلندي يخوض حرب عصابات رهيبة ضد بريطانيا، اقترف خلالها عشرات إن لم يكن المئات من العمليات الارهابية التي راح ضحيتها الآلاف من الابرياء· وبعد صراع عشوائي استنزف موارد هائلة على جانبي المواجهة وعطل، بل وأضر كثيرا بالعملية السياسية في ايرلندا وعرقل طويلا من فرص التسوية، ها هي واحدة من أعتى حركات العنف الاوروبية تقرر التخلي عن السلاح وقبول التسوية السلمية، في خطوة مذهلة بكل المقاييس.
لقد ظل الجيش الجمهوري الايرلندي يمثل البقية الباقية من تراث الارهابيين الاوروبيين. فقد ولت أيام بادر ماينهوف الالمانية والالوية الحمراء الايطالية وغيرها من جماعات ارهابية غير شرق اوسطية، روعت مع منظمة مثل الجيش الاحمر اليابانية، العالم الغني في مرحلة ما قبل الثمانينات· كل هؤلاء اختفوا لكن ظل الجيش الجمهوري الايرلندي مثل الشوكة في خاصرة بريطانيا بحضوره المادي أو حتى بتاريخه الدموي، الذي ارتبط باسمه وصار دليلا عليه والعكس صحيح·لكنه فجأة -ويا لها من مفارقة تاريخية جديرة بالنظر والاعتبار- يقدم على هذه الخطوة في الوقت الذي تتعرض فيه لندن لهجمة ارهابية شرسة من داخلها· طبعا لا يتوجه عناصر الجيش الجمهوري الايرلندي بخطوتهم هذه الى الارهابيين.
فقد كان القرار حصيلة تفاعلات وحوار مستفيض في داخل الحركة أفضى في النهاية الى تبني موقف، بدا طويلا لكثيرين، مثل الغول والعنقاء والخل الوفي.
لقد أعلنها الجيش الجمهوري الايرلندي صريحة انه سيتخلى عن العمل المسلح وسيتجه للعمل السياسي، سعيا وراء أهدافه. والمعنى واضح جدا لا لبس فيه، وهو أن العنف ·· لا يحل قضية ولا يحسم نزاعا· ولا يحقق هدفا· أدرك الجيش الجمهوري ذلك للأسف بعد 30 عاما وآلاف الضحايا وخسائر مادية بالمليارات.
فهل يعي الدرس أولئك الذين يسيرون على دربه رغم اختلاف القضايا والنزاعات· ألا يمثل ذلك للارهابيين ولمن يسيرون على دربهم رسالة غير مباشرة ذات مغزى·؟!
والرسالة الايرلندية هذه تحمل في طياتها أكثر من معنى· فالخطوة الاولى، بدأت من عند جيري أدامز زعيم الجناح السياسي للجيش الجمهوري الايرلندي الذي وجه نداء للعناصر المسلحة من أجل القاء السلاح والدخول إلى معترك الحياة السياسية· ثم بدأ الحوار الداخلي الذي أفضى للقرار التاريخي.
ويعني ذلك أن على أولئك الذين يتبنون قضايا الارهابيين ويرددون دعاويهم وأولئك الذين يقدم لهم الدعم المعنوي، أن يتراجعوا عن ذلك ويفكروا في الأمر مليا وأن يثنوهم عن غيهم.
وعلى الارهابيين أنفسهم أن يتدبروا أمرهم ويتفكروا، فيما جرى ويجري حولهم وبسببهم، حينئذ سيدركون فداحة الخسائر التي كبدوها لأوطانهم وللاوطان التي فتحت لهم أبوابها· لكنها بدون شك ستكون كارثة محققة لو احتاج الإرهابيون الجدد 30 عاما لاتخاذ قرار مماثل للمبادرة الأيرلندية ·!!