"حالة التأهب القصوى وارتفاع الروح المعنوية القتالية" هي التي تسود في أوساط الجنود البريطانيين الموجودين حالياً في العراق, هذين اليومين. وخلال العشرة أيام الأخيرة التي أمضيتها هناك, بصفتي مرافقاً لجنود التحالف الدولي, الذين يقودهم البريطانيون في مدينة البصرة الواقعة جنوبي العراق, صادفت الكثير من الجنود الموضوعين في الحالة المذكورة أعلاه, التي يطلق عليها البريطانيون تسمية "إصلاح القطاع الأمني". ويمثل هذا الإصلاح بما يعنيه من جهد مبذول من أجل المحافظة على السلام, في الوقت ذاته الذي يجري فيه تدريب وتأهيل العراقيين للقيام بمهامهم الشرطية والأمنية بأنفسهم, يمثل أهمية كبيرة لاستراتيجية الخروج الأميركي-البريطاني من العراق. وكما قال لي أحد القادة العسكريين البريطانيين, فكلما أسرع العراقيون في الإمساك بزمام أمن بلادهم, كلما تمكنا من العودة السريعة إلى بلادنا.
من هذه الزاوية تبدو الاستراتيجية المذكورة ناجحة, لا سيما من ناحية تأهيل وتدريب ضباط أمن المدن العراقيين, الذين يحرزون تقدماً كبيراً في تعلم واستيعاب نظم التدريب الأمني في التقنيات والوسائل الصحيحة في إلقاء القبض على المشتبهين والمتهمين, وكذلك في إصدار وتنفيذ الأوامر الأمنية, وغيرها من تدريبات يوفرها لهم مدربوهم الأجانب. إلى ذلك فإن أجور ضباط الشرطة مرتفعة ومغرية, وتراهم يركبون سيارات الدوريات الجديدة اللامعة, ويرتدون الزي الرسمي الدال على تميز وضعهم المهني والاجتماعي. والجيد في الأمر أن هؤلاء الضباط وضعوا أنفسهم بمحض إرادتهم تحت "حالة التأهب القصوى" التي تحدثت عنها, وتسمعهم يكثرون من الحديث عن رغبتهم في تأمين بلادهم وخدمتها.
لكن من ناحية أخرى, تبدو استراتيجية "إصلاح القطاع الأمني" هذه مخيبة لآمال المواطنين العراقيين, المعنيين بها في المقام الأول والأخير. فكما أشارت التقارير الصادرة مؤخراً عن سياسات مدينة البصرة, فإن الشيعة يحكمون قبضتهم أكثر فأكثر في الحياة اليومية لهذه المدينة, بما في ذلك تفاصيل حياتها السياسية بالطبع. وتمتد هذه القبضة الشيعية المحكمة, من ممثلي "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق" إلى ممثلي وأتباع الزعيم الشيعي المتمرد مقتدى الصدر. وبما أن ضباط الشرطة يتم تعيينهم واختيارهم من صفوف نفس الفئات الاجتماعية, المتدنية التعليم والكفاءة المهنية السائدة في المدينة, فإن لغالبية ضباط شرطة المدينة, ولاءات مزدوجة ومتضاربة إزاء الطائفة الدينية التي ينتمون إليها, وإزاء الدولة من جانب آخر.
وتأكيداً لهذه الحقيقة, صرح رئيس شرطة المدينة لإحدى الصحف البريطانية في شهر مايو المنصرم, بأن لحوالي نصف قوته الشرطية المؤلفة من 700 جندي, ولاءات وانتماءات لأحزاب سياسية دينية. بيد أن ضابطاً آخر صحح ذلك التصريح, واصفاً إياه بالمغالاة في التفاؤل, وأكد أن 75 في المئة من ضباط الشرطة الذين يعرفهم معرفة شخصية, تابعون للزعيم الشيعي مقتدى الصدر. والمؤسف أن البريطانيين إما أنهم غير راغبين أو عاجزون عن فعل شيء لتغيير هذا الواقع. بل أهم من ذلك, أن سكان مدينة البصرة أنفسهم يعلمون أن البريطانيين يسهمون في تعزيز القبضة الشيعية على الحياة العامة في مدينتهم. وهذا هو ما يغضب سكان المدينة كثيراً, ويثير حنقهم واستياءهم من البريطانيين.
بعبارة أخرى, فإن الاستراتيجية الحقيقية لإصلاح قطاع الأمن, إنما تتطلب تدريباً بدنياً ونفسياً وذهنياً في ذات الوقت. وما لم يضمن القادة الأمنيون البريطانيون, استراتيجية إصلاحهم للقطاع الأمني العراقي هذه, بعض المبادئ الديمقراطية الأساسية, فإن مصيراً سياسياً قاتماً ينتظر هذه المدينة, ويحدق بها في المستقبل القريب. ذلك أنها سرعان ما تقع فريسة للقبضة المحكمة للجماعات والتيارات الدينية المتطرفة, إلى جانب كونها فريسة بيد ضباط الشرطة, الذين تولى تدريبهم وتأهيلهم لهذه المهمة القمعية, المدربون والخبراء الأجانب! فهل هذه هي قيم الديمقراطية التي جئنا لنشرها في العراق؟ أم أن هذه هي نتيجة إصلاح القطاع الأمني التي نبعث لأجلها الخبراء الأجانب؟.
ستيفن فينسنت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مؤلف كتاب "في المنطقة الحمراء: رحلة في أعماق روح العراق"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"