الجدل الآن محتدم في أوساط بريطانية وأوروبية واسعة, بشأن فعالية نظرية التعددية الثقافية التي كانت قد حكمت سياسة بريطانيا إزاء الجاليات الملونة التي تعيش فيها, وهي النظرية المعاكسة لنظرية دمج الجاليات في المجتمعات الأوروبية عبر السياسات الحكومية والقوانين. وتفصيلا في ذلك فثمة نموذجان أوروبيان ظلا يتنافسان في إثبات أيهما أنجع في التعامل مع الجاليات المسلمة. نموذج الدمج وقد تمثل دوماً بالحالة الفرنسية القائمة على ضرورة "فرنسة" المهاجرين تدريجياً ودمجهم ولو قسراً في إطار المجتمع الفرنسي. وهناك النموذج البريطاني القائم على التعددية الثقافية وإتاحة مساحة مريحة لكل جالية أو إثنية كي تحافظ على ثقافتها وتقاليدها الدينية في إطار القانون. لكل من هذين النموذجين جوانب سلبية وإيجابية, وهناك تأزمات خاصة بكل منهما, بعضها له علاقة بالوضع القانوني وآخر له علاقة بازدواجية الهوية والانتماء والتدرج في العيش في البلد المعني. لكن بكل الأحوال كانت الجاليات العربية والمسلمة وما زالت تشعر بطمأنينة أكثر في ظل نموذج التعددية الثقافية, إذ لم تكن تعاني من اصطدامات الهوية والولاءات كما هي في نموذج الدمج شبه القسري, وتحديداً تجلياته الفرنسية.
التجربة البريطانية كانت فخورة بنفسها على الدوام باعتمادها سياسة التعددية الثقافية التي تبنتها وبها تركت الجاليات الإثنية على حالها الثقافي من دون تدخل أو محاولة لإلغاء خصوصياتها الدينية أو الثقافية. ولم يكن هاجس الدمج وجعل المهاجرين بريطانيين هاجساً أرق السياسة البريطانية رغم دعوات عدد من السياسيين المتطرفين بين الفينة والأخرى لطردهم أو سد الحدود أمامهم. بل صيغت العلاقة معهم في إطار الحقوق القانونية والواجبات, وتم منحهم حق المواطنة بحسب القانون. لم تكن تلك السياسة مثالية وخالية من العيوب, إذ رغم نجاحها الإجمالي اتهمت بأنها تهمل صياغة توافقات ثقافية واجتماعية عامة داخل المجتمع البريطاني وبحيث ينتهي الأمر إلى وجود مجتمعات منفصلة عن بعضها بعضاً داخل المجتمع الواحد. كما أن كثيراً من الممارسات التي كانت تجري داخل كل جالية والتي لم تكن مقبولة بريطانياً من الناحية الثقافية والقانونية (مثل الزواج القسري, أو ختان الإناث, وأحياناً قتل الشرف) كانت تتم بمسوغ أنها عادات ثقافية وخصوصيات يجب عدم التدخل فيها من قبل الدولة. لكن الجدل المحتدم الحالي الذي قام على خلفية التفجيرات الإرهابية الأخيرة في قطارات لندن نقل التشكيك في نموذج التعددية الثقافية إلى مستوى آخر, وهو فشلها في منع التطرف من النشوء في أوساط الجاليات المسلمة عندما تركت كما هي.
في المقابل, كان تطبيق نموذج الدمج في فرنسا حيث يتراوح عدد المسلمين حول خمسة ملايين أغلبهم من البلدان المغاربية. وكان الجيل الأول من هؤلاء قد جاء في عقدي الخمسينيات والستينيات بعد إغراءات كثيرة كان الفرنسيون يقدمونها للمهاجرين, بالوعد بحياة أفضل ودخول أعلى, وذلك لسد النقص في الأيدي العاملة. حال العمال الأتراك في ألمانيا, وإن كان عددهم أقل, هو شبيه تماماً حيث استدعتهم السياسات الحكومية الألمانية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية كقوة عمل كانت ألمانيا في مسيس الحاجة إليها وفي نفس الوقت رخيصة الكلفة. فرنسا حاولت "فرنسة" المهاجرين وفرضت عليهم إتقان الفرنسية ودمجهم في النظم التعليمية والقانونية وغير ذلك, كما قننت الجمعيات الدينية إلى الحدود الدنيا وراقبت تطور التطرف الديني وسط الجالية المسلمة. كما طرحت ودعمت فكرة "الإسلام الفرنسي", أي الإسلام الذي يتلاءم مع المجتمع الفرنسي ويتصالح معه. لم يقدم نموذج الدمج نجاحات باهرة, إذ ظلت الجالية المسلمة متميزة ولا تشعر بأنها جزء حقيقي من المجتمع الفرنسي, كما أن تأزمات الهوية الثقافية والدينية ظلت تنفجر هنا وهناك, كما أن تلك الجالية لم تكن بمنأى عن موجات التطرف الإسلامي.
استناداً إلى النهج التسامحي الذي امتاز به النموذج البريطاني تأسست جمعيات وأحزاب إسلامية عديدة داخل الجالية المسلمة, كما وفد إلى بريطانيا أفراد وجماعات ولاجئون سياسيون من بلدانهم يتبنون أقصى أنواع التطرف الإسلامي. وسمحت بريطانيا لهؤلاء بالعمل السياسي تحت الشمس طالما أنهم لا يمارسون العنف. وقد كان أثر القادمين من الخارج من التيارات الإسلامية الجهادية والسلفية (وغالبيتهم من العرب) كبيراً في أوساط الجيل الشاب من الجالية المسلمة (وغالبيتهم من الباكستانيين والهنود والبنغاليين). وسبب التأثير يعود إلى اللغة العربية والقرآن حيث نظر الشباب المسلم المراهق المشوش في هويته والمحاصر بالتهميش والاغتراب داخل المجتمع البريطاني إلى "المجاهدين" العرب على أنهم منظرون لهم وقادة. وكان أن صارت لندن عاصمة للتطرف الإسلامي وأطلق عليها البعض وصف "لندنستان". لم يكن الحال كذلك في فرنسا التي أغلقت أبوابها أمام هؤلاء وطاردتهم منذ البداية, بل ونشأت احتكاكات بينها وبين بريطانيا جراء السياسة التسامحية البريطانية لأن من يق