في أعقاب هجمات 11 سبتمبر تركزت الأضواء على السعودية، باعتبار أن جل منفذيها كانوا سعوديي الجنسية والمنشأ، مع تركيز مماثل على باكستان التي كانت حتى ذلك التاريخ الداعمة الوحيدة لنظام طالبان المتحالف مع القاعدة. اليوم وبعد ثبوت ضلوع بريطانيين من أصل باكستاني في تفجيرات لندن الأخيرة، تجد باكستان نفسها مجددا في قلب دائرة الاتهامات والضغوط. والسؤال المحوري هو هل بمقدور الرئيس برويز مشرف أن ينجح في احتواء هذه الضغوط مثلما فعل بذكاء بعيد أحداث 11 سبتمبر حينما قطع روابط بلاده بإمارة طالبان, وانضم إلى الحرب على الإرهاب فجنب بلاده ونظامه المحاسبة والمقاطعة؟ الجواب يعتمد كثيرا على كيفية تعامله مع المدارس الدينية المنتشرة في بلاده والتي وصفها وزير الخارجية الأميركي السابق كولن باول صراحة ذات مرة بأنها "مصانع لإنتاج التطرف والإرهاب".
في الأسبوعين الأخيرين وعلى خلفية تفجيرات لندن قام الجيش الباكستاني بحملة غير مسبوقة ضد تلك المدارس والجماعات التي تديرها واعتقل 600 متشدد. وهذه تحسب للجنرال مشرف، لكن تلك الخطوة التجميلية لم تعد اليوم قادرة على إقناع العالم بخلو باكستان من مصانع تفريخ المتشددين، خاصة بعدما تأكد أن نفرا غير قليل ممن قاموا بأعمال إرهابية في السنوات الأخيرة مروا بمدارسها الدينية أو ارتبطوا بها، ابتداء من زعماء القاعدة الستة المعتقلين، مرورا بريتشارد ريد صاحب الحذاء المفخخ وساجد بدات الذي اعترف بمخطط لتفجير طائرة ركاب متجهة إلى أميركا في عام 2003 وأسامة نزير الذي فجر كنيسة في إسلام أباد في عام 2002, وأحمد عمر سعيد شيخ قاتل الصحفي الأميركي دانيال بيرل, وعمر خان شريف وآصف محمد حنيف اللذين فجرا مقهى في تل أبيب في عام 2003، وانتهاء بمرتكبي تفجيرات لندن.
فالمسألة إذن ربما باتت تستوجب إغلاق المدارس المذكورة نهائيا ودمج طلابها في النظام التعليمي العام. لكن هذا عمل كبير فوق طاقة حكومة مشرف الذي تخاصمه الأحزاب الليبرالية الرئيسية منذ انقلابه العسكري في 1999، وتعاديه الأحزاب الإسلامية بسبب تحالفه مع واشنطن وسياساته المهادنة حيال الهند، وربما لا تدين له المؤسسة العسكرية بالولاء المطلق بدليل أن واحدة على الأقل من محاولات اغتياله كان مصدرها بعض منسوبي الجيش.
وتتضح صعوبة التخلص من تلك المدارس أكثر حينما نعلم أن عددها يقدر بنحو 50 ألفا، وأنها تحتضن نحو مليوني طالب تتراوح أعمارهم ما بين 5 – 18 عاما، وأنها المصدر الوحيد لتقديم التعليم الأولي المجاني– إضافة إلى السكن والكساء والطعام - لأبناء العائلات الفقيرة في بلد لا ينفق على التعليم سوى 2 في المئة من إجمالي ناتجه المحلي.
الجانب الآخر من الصعوبة يكمن في ارتباط هذه المدارس بقوى الإسلام السياسي في البلاد ذات النفوذ الواسع. وهذه لا يتوقع منها أن تستسلم بسهولة لأي إجراء من شأنه حرمانها مما تعتبره مصانع لإعداد ذخائرها البشرية المؤدلجة، بل يمكنها أن تستغل حضورها في الشارع الملتزم وفي أوساط الأميين الذين يشكلون نصف عدد السكان للترويج بأن الحكومة تستهدف الإسلام. بل إن هذا حدث بالفعل ومن أمثلته قول الرجل الثاني في حزب "سباه الصحابة" المتشدد مجيب الرحمن انقلابي "إن إصلاحات مشرف المزعومة هي ضد الإسلام وتستهدف تحويل مدارسنا إلى ما يشبه مدارس مصر والأردن، كي تتوقف ماكينة الجهاد عن العمل".
والحال أننا إزاء معضلة يتطلب حلها دعما دوليا واضحا لحكومة مشرف من خلال مشروع كبير لاستبدال ما هو قائم حاليا بمدارس حديثة ذات مناهج عصرية ومدرسين مؤهلين، مع تطوير النظام التعليمي الباكستاني الراهن وتوفير التعليم المجاني للجميع, وإطلاق حملة في أوساط المجتمعات الفقيرة لتوعيتها بفوائد إلحاق أبنائها بمدارس عصرية بدلا من مدارس تلقنهم كراهية الآخر وتقودهم في النهاية إلى التهلكة خدمة لأجندات سياسية دموية. غير أن هذا يتطلب أولا اعتراف صناع القرار في إسلام آباد بوجود المشكلة. وثانيا امتلاكهم لإرادة التغيير وعزيمة المضي فيه إلى النهاية. وثالثا ضرورة ألا ينظر الباكستانيون إلى العملية على أنها استجابة لمطلب خارجي وإنما كإجراء لابد منه من أجل مستقبل باكستان وأجيالها الشابة، وأخيرا ضرورة خلق آلية للتأكد من أن ما سيضخه المجتمع الدولي من أموال سوف ينفق على التعليم وليس على مشتريات السلاح. هنا لابد من القول إن الغرب عليه أن يتحمل جزءا أساسيا من المسؤولية إذا أراد فعلا التخلص من مصانع تفريخ المتشددين في باكستان، لأنه ساهم في ازدهارها زمن حرب الجهاد ضد السوفييت.
فالمدارس الدينية التي كان عددها وقت تأسيس باكستان في عام 1947 لا يتجاوز 250 مدرسة ثم ارتفع تدريجيا حتى وصل إلى 2000 في أواخر السبعينيات، لم تكن تختلف في مناهجها أو مواردها كثيرا عن المدارس الإسلامية التقليدية في الدول الأخرى. غير أنها تكاثرت كالفطر وجنحت مناهجها نحو التشدد وزرع الأفكار المتطرفة ابتداء من الثمانينيات التي شهدت حرب الجهاد ضد السوفييت وتطبيق باكستان