ليس الإعلام فقط ما يُدرس في الكتب، المصادر والمراجع، بل ما يحياه الناس خاصة المشاهدين الذين يوجه إليهم الإعلام. وما في الكتب في الغالب هي نظريات الاتصال وكلها غربية أوروبية أميركية تعمم لدى الدول غير الأوروبية وأميركا من خلال مؤلفات أساتذة الإعلام دون مراعاة للبيئات المحلية وتغير المشاهدين من بيئة إلى أخرى. والإعلام في النهاية علم إنساني وليس فقط علما طبيعيا للصوت والضوء. يتوجه إلى المشاهد للتأثير فيه وإيصال الرسالة إليه وليس وسائل الاتصال.
والموضوع الرئيسي في الإعلام هو الخبر، وليس الترفيه أو التعليم أو الوعظ الديني أو المباريات الرياضية أو الإعلانات. الخبر هو الأساس والذي من أجله يجلس المشاهد أمام أجهزة التلفاز ليتلقى الخبر. وبعد ذلك يبحث عن البرامج الأخرى، خاصة في هذه الأيام والأخبار تتسارع، والحوادث تتوالى، وأخبار قناة "الجزيرة" أصبحت أهم مصادر الخبر للمواطن العربي عامة وللمثقف خاصة وربما أيضا للسياسي وصاحب القرار.
وبعد أن تعود الناس على سماع أخبار "الجزيرة"، والكرة الأرضية تهبط إلى المياه وتصعد بلفظ "الجزيرة" المميز في شكله وخطه, تغير الإخراج في أول هذا العام بموسيقى جديدة وأشكال إلكترونية غير مألوفة، وطغت تكنولوجيا الاتصال على مضمون الخبر. وتحولت الوسيلة إلى غاية في ذاتها تبهر العين والأذن قبل أن تشبع الذهن، وتنبه العقل.
وزاد الجانب الحرفي الذي وصلت "الجزيرة" إلى أقصى مداه من قبل فتحول إلى افتعال باسم تجديد الأسلوب، وتجاوز المألوف. وزايدت على باقي القنوات الفضائية القديمة والجديدة مع أنها قد كسبتها من قبل وبزّتها. ولم يعد أحد قادراً على منافستها. وتطرفت في وسائل الإخراج والتقديم حتى ضاع مضمون الخبر. وأصبح الخبر هو الوسيلة، وطرق التقديم هي الغاية.
استمرت الموسيقى، صاخبة في البداية وخافتة طول الوقت أثناء سماع الموجز ثم الصخب الموسيقى من جديد. شوشت الموسيقى على الخبر، وتحول الخبر إلى مادة للموسيقى التصويرية كالأفلام والتمثيليات الدرامية التلفزيونية. وتحولت المقدمة أو المقدم إلى ممثل يقوم ويقعد، ويسير ويلتف، يبتسم وتبتسم أكثر مما يجب، يصعد الدرج ويهبط منه، ويدخل الحلقة ثم يخرج منها. وينتهي الموجز أو الخبر بمجرد سماعه ثم يتخلله الفاصل الموسيقي أو الإعلان عن برنامج قادم "بلا حدود" أو "الاتجاه المعاكس" أو "تجربة حياة" لأحد مشاهير الإعلاميين أو "سري للغاية" أو "صحفيون بلا حدود". وأصبحت الأخبار التي ينتظرها المشاهدون والتي كانت بحق مدرسة سياسية في إذاعة الخبر وتحليله ومناقشته، أصبحت أداة للإعلان عن باقي البرامج "المثيرة" التي لا تحتاج إلى مزيد من النجاح الإعلامي.
والسؤال هو: هل "الأخبار" فن أم سياسة؟ هل المقصود منها إظهار إبداع وسائل الاتصال الحديثة بكل ما لديها من قدرة على الإبهار بالوسائل السمعية والصوتية أم دعوة المشاهدين إلى التفكير والتبصير بالحقائق بعد أن أصبح الإعلام الرسمي متحدثا رسميا باسم نظم الحكم فضاعت مصداقيته، وانتظر الناس الإعلام الحر والخبر الصادق والتغطية الجريئة والمشاهد الحية من قناة "الجزيرة"؟ وبمجرد سماع الخبر، ومدته أصبحت أقصر من الماضي، يُعاد الموجز أكثر من مرة لمن لم يشاهد البرنامج الخبري من أوله.
وبعد أن كان المشاهد، خاصة المهتم بالشأن العام، والمختص بالفكر السياسي والعمل الحزبي يعطي على الأقل نصف ساعة من وقته ثلاث مرات يومياً للبرامج الإخبارية "الجزيرة هذا الصباح" في الصباح، و"منتصف اليوم" ظهرا، و"حصاد اليوم" مساء دخلت أخبار الرياضة وأخبار المال والاقتصاد وأسعار العملات، وأسهم البنوك، وأوضاع البورصات العالمية بل وأخبار الطقس، فيتشتت فكر المشاهد المختص بالأوضاع السياسية. وشعر بأن البرنامج الخبري مجرد وسيلة للإعلان عما هو أهم. بل كثر تدخل الإعلان عن البنوك والشركات، ومن يساهم في ماذا تدعيما بالمال، "بنك أبوظبي الوطني" أو شركة "قطر للبترول". بل أتى ما هو أعظم وهو الإعلانات التجارية عن العربات وأدوات التجميل ومكيفات الهواء وكل البضائع الاستهلاكية. فبعد أن كان المشاهد يتعلم من الأخبار، ويزداد وعيه سياسيا وتاريخيا أصبح ضحية رأس المال والشركات والبنوك ورجال الأعمال. ونظرا لنجاح "الجزيرة" في الخبر، استعمل هذا النجاح للترويج للإعلان التجاري كما هو الحال في القنوات الأميركية. أصبح الخبر محمّلا بثقل كبير أكثر مما يتحمل. فتحول المشاهد الجاد عنه إلى "العربية" أو إلى "بي. بي. سي العالم" بأقل قدر ممكن من الإخراج في البداية، الموسيقى الإيقاعية، والأرقام في عدد تنازلي ترمز للثواني التي لا تتجاوز العشرين. ثم يأتي الخبر الجاد، والتحليل العلمي، والنقاش السياسي.
ويبدأ أثر الإخراج الأميركي في الاهتمام بشكل مقدمات البرامج أكثر مما يجب. صحيح أن الوجه الجميل، والابتسامة الحلوة، وأناقة المظهر بل وروعة الحجاب الذي يكشف عن نضارة الوجه، كل ذلك يجعل المشاهد سعيدا بالجانب الجمالي في إذاعة الخبر. هذا بالإضافة