لا يزال الكثيرون في العالم العربي يتصورون أن المستوطنين الصهاينة في الضفة الغربية قد استوطنوا هناك دفاعاً عن الأيديولوجية الصهيونية والحلم اليهودي بالعودة إلى أرض الميعاد، وأنهم يقفون دفاعاً عن الأرض التي استولوا عليها يمسكون السلاح بيد والمحراث بالأخرى، وهي الصورة التي يروجها الصهاينة عن أنفسهم ليبثوا الرعب في نفوسنا وحتى يبينوا للعالم مدى صلابتهم في دفاعهم عن أحلامهم وعن "حقوقهم".
ولكن هذه الصورة لا علاقة لها بالواقع. فقد تآكلت الأيديولوجية الصهيونية، وحدثت تحولات عميقة في التجمع الصهيوني. ولابد أن أعترف أنني وقعت تحت تأثير هذا النموذج بعض الوقت إلى أن قابلت طالبة من طالباتي عاشت في حيفا بعض الوقت ولاحظت أنها تتحدث بازدراء شديد عن المستوطنين الصهاينة، ولا تراهم باعتبارهم أبطالا أو مقاتلين شرسين, مما جعلني أشعر أن في الأمر شيئاً ما. ثم بدأت أطالع بعض الإعلانات في الصحف الإسرائيلية ولاحظت أن كثيرا منها يفترض أن المستوطن الصهيوني, هو إنسان مستهلك وأن ما يهمه هو الربح المادي وليس الدفاع عن الأرض وما شابه من "مثاليات" قومية. ولذا فهذه الإعلانات خالية تماما من أي إشارات دينية إلا بطريقة ساخرة مستخفة. خذ على سبيل المثال هذا الإعلان عن "ذي فرست إنترناشيونال بنك". المانشيت الأساسي في الإعلان هو الجملة التالية:"البنك المناسب (الحقيقي) للشعب صاحب الحقوق". ثمة لعب على كلمة right الإنجليزية فهي تعني "مناسب" وتعني "صاحب الحق"، وهي إشارة ساخرة للادعاء الصهيوني بأن اليهود لهم "حقوق مطلقة" في أرض الميعاد. وبينما يتحدث الإعلام الصهيوني عن "حقوق" اليهود الأزلية الثابتة في أرض الميعاد، فإن الإعلان يتحدث عن حقهم العملي المباشر الحركي في أن يفتحوا حسابا جاريا بالعملات الأجنبية. ثم يذكر حقوقاً عملية أخرى مثل الحصول على العملات المناسبة (الحقة) بالشروط المناسبة (الحقة) وهكذا.
أما الإعلان الثاني فهو إعلان نشرته الوكالة اليهودية- قسم الهجرة والاستيطان بالاشتراك مع وزارة استيعاب اللاجئين ووزارة الإسكان والتعمير، وهو موجه إلى "اللاجئ العزيز" (أوليه) وهي من الكلمة العبرية "عاليا" أي الصعود (إلى أرض الميعاد) وهي تحمل معاني السمو والرقي الروحي. كل هذا يختفي تماما. فالإعلان يدعوه لأن يجعل منزله في إسرائيل وأن يشتري شقة الآن. ولا يوجد أي ذكر لصهيون أو لأرض الميعاد وإنما يخبره الإعلان, "فلتغتنم الفرصة للمزايا الخاصة المتاحة لك اليوم". ثم يذكر له ثمن الشقة وبعض مزاياها. والإشارة الوحيدة للرموز اليهودية هي إشارة ساخرة, إذ يظهر يدين ممسكتين ببيت يوحي بأنه يشبه نجمة داوود (أو هكذا يخيل لي على الأقل). هذه الإعلانات غيرت من وجهة نظري كثيرا وعدلت خريطتي الإدراكية، وبدأت أرى المستوطنين الصهاينة من هذا المنظور الجديد، فوجدت أن الادعاءات الأيديولوجية الصهيونية قد تراجعت، وحل محلها توجه استهلاكي حاد، والتزام بالقيم النفعية المادية، والبحث عن اللذة في الإطار المادي.
خذ على سبيل المثال هذا الخبر عن نعومي شومر، أشهر مغنية "قومية" صهيونية إسرائيلية. حينما زارت سيناء بعد احتلال إسرائيل لها عام 1967 قالت بلهجة أيديولوجية صهيونية نهمة: "هذه هي الأرض التي تمد يدها لتعطي لا لتأخذ". ولكن حين حان الوقت لإخلاء المستوطنات في سيناء، رفض بعض المستوطنين الصهاينة الانصياع لأوامر الدولة الصهيونية وأعلنوا تمسكهم بـ"الأرض" التي تعطي، وغنَّت نعومي شومر أغنية تؤيد معارضي الإخلاء وتطالب بالتمسك بالأرض. وقرر المستوطنون إقامة مسيرة احتجاج ضد الانسحاب من سيناء، ودعوا نعومي شومر لتغني أغنيتها الحماسية القومية، ففوجئوا بأن وكيل أعمالها يطلب منهم مبلغا كبيرا لقاء ذلك، أي أنها مدت يدها لتأخذ لا لتعطي. وعلى كل كانت نعومي شومر تعرف أن تمسكهم بالأرض كان ستارا أيديولوجيا كثيفا يغطون به رغبتهم الشرهة في الحصول على تعويضات باهظة من الدولة الصهيونية.
ويتكرر الموقف الآن في غزة. فقد لاحظت الصحف الإسرائيلية أن المستوطنين الذين سيتم إخلاؤهم لا يمانعون في ذلك، وأن الأصوات الرافضة العالية التي يصدرونها ليست تعبيرا عن تمسكهم بالأرض بمقدار ما هي تعبير عن رغبتهم في تحسين موقفهم التفاوضي بشأن التعويضات. وقد نشرت بعض الصحف الإسرائيلية أنه بعد الانسحاب من سيناء قام بعض الصهاينة بالاستيطان في غزة والضفة الغربية وهم يعرفون جيدا أن الحكومة ستقوم بإخلائهم يوما ما، وستكون ملزمة بدفع تعويضات لهم، أي أنهم استوطنوا كي يحصلوا على تعويضات الإخلاء في المستقبل النقدي الوردي.
وقد لاحظت إحدى الصحف الإسرائيلية في مقال بعنوان "لا دافع أيديولوجياً وراء تصميم المستوطنين على البقاء في غزة... فقط عملية شراء وبيع". إن المستوطنين الذين يزمعون إخلاءهم من منازلهم غير مكترثين بالثوابت الصهيونية وقد دخلوا في مفاوضات ساخنة مع الدولة تدور أساسا حول حجم التعويض الذي سيعطى لهم بسبب الإخلاء.
وقد أدرك سماسرة العقارات هذا ال