لقد هدد محافظ بغداد بالاستقالة من منصبه الشهر الماضي, بسبب نقص التمويل الذي يعانيه. وتعلل المحافظ, بالنقص الذي تواجهه إمدادات المياه في المدينة, جراء تفجير المتمردين لأحد خطوط المياه الرئيسية, مما أسفر عن انقطاع إمدادات مياه الشرب عن حوالي مليوني مواطن من مواطني بغداد. ولكن ليست المياه وحدها, بل يظل إعمار الاقتصاد العراقي وبنيته التحتية, أمراً مهزوزاً وبعيداً كل البعد عن الاستقرار. وينطبق الحال نفسه على الوضع الأمني والتحول السياسي صوب الديمقراطية. والمعلوم أن للنزاع العسكري المسلح, هدفين رئيسيين هما الفوز بالحرب وبالسلام. وعلى الرغم من أننا نمتاز في أولهما, إلا أننا نفتقر عملياً إلى ما يمكننا من الفوز بالهدف الثاني. ولذلك فإنه تسهل كثيراً خسارة الانتصارات العسكرية التي نحققها. يذكر أن الولايات المتحدة الأميركية, قد تعهدت بقيادة ست عمليات كبيرة من عمليات إعادة بناء الأمم في مختلف أنحاء العالم, خلال الفترة الممتدة من عام 1993. وعلى الرغم من أن هذه العمليات قد شهدت نجاحات وإخفاقات, إلا أنها أسفرت عن نتيجة واحدة رئيسية, هي التي تسيطر وتفرض نفسها على مواضيع الحوار العام, وتدور حول السؤال عن مدى ضرورة تعهد الولايات المتحدة بمهام كهذه من حيث الأصل؟
بيد أن هجمات الحادي عشر من سبتمبر, غيرت مجرى هذا الحوار تماماً. إذ لم يعد بعدها النظر كما هو, إلى فشل الدول والنزاعات المسلحة التي تدور في أنحاء نائية من الكرة الأرضية, باعتبارها مسائل إنسانية لا أكثر. وكما قال الرئيس بوش "فإن في وسع الدول الفاشلة والضعيفة, مثلما هو حال أفغانستان, أن تمثل تهديداً أمنياً للمصالح الدولية الأميركية, لا يقل أثره عن ذلك الذي تمثله الدول القوية ذات الوزن الدولي".
لكن وعلى الرغم من الإقرار بهذه الحقيقة, إلا أن الممارسة العملية الملموسة على الأرض تقول, إنه لم تطور الولايات المتحدة بعد, ما يكفي من الاستعدادات والقدرات الهيكلية, على نحو يفي بمتطلبات المساهمة في إعادة بناء الدول ودعم استقرارها. ذلك أن المسؤوليات موزعة, بينما لا توجد جهة واحدة مخولة بهذا الأمر. كما لم تحدد بعد وعلى نحو واضح, أدوار كل من الجيش والهيئات والمؤسسات المدنية, في مهام كهذه. وعليه, فإن المؤسسات والهيئات المدنية, لا تزال في أمس الحاجة إلى قيادة هيكلية موحدة, تناط بها مهمة رسم السياسات واتخاذ القرارات ووضع البرامج وتوفير الموارد ذات الصلة بدور المؤسسات والجهات في هذه العملية.
صحيح أن مهمة إعمار العراق الجارية الآن, ربما تكون كبيرة جداً واستثنائية نوعاً ما. غير أن هذه المهمة الاستثنائية, لم يتوفر لها ما يكفي من استعداد الجيش والطاقم البشري المدني, اللازم للقيام بها. ولذلك فإنها تظل – مثلما تظل كذلك الدول الفاشلة وتلك الخارجة من جحيم النزاعات المسلحة للتو- في المشهد نفسه, بقدر ما تستمر الحاجة إلى تدخل الولايات المتحدة, وتعهدها بمهام إعادة البناء هذه. وبما أننا ندرك طبيعة المشكلة وحجمها, فما هو الحل الذي نقدمه لها في المقابل؟ في الإجابة على هذا السؤال, نذكر أن "مجلس العلاقات الخارجية" عمد مؤخراً إلى تشكيل "قوة مهام" على طريق البحث العملي عن الحل. ومن نتائج تلك الخطوة أنها أسفرت عن بعض المؤشرات التالية:
أولاً: لابد من تحديد جهة مسؤولية ما - على المستوى القيادي الأعلى- تناط بها مهمة إدارة التضارب الذي كثيراً ما ينشب بين دور الجيش والجهات والهيئات المدنية في مثل هذه المهام. يشار إلى أن "مجلس الأمن القومي" يعد الجهة الأفضل للقيام بهذه المهمة القيادية, وذلك من خلال إنشاء إدارة جديدة, توكل إليها مهام إعادة الإعمار والبناء في المرحلة التالية لانتهاء النزاعات المسلحة.
ثانياً: وبصرف النظر عن مدى تأهيل المدنيين, فإن مهام حفظ الأمن والنظام في مرحلة ما بعد النزاعات مباشرة, تظل في مقدمة الواجبات الواقعة على عاتق الجيش والقوات النظامية في المقام الأول. يشار إلى أن الجيش الأميركي, قد واصل رفضه ومقاومته دائماً لفكرة توسيع مهام إعادة البناء والاستقرار في مناطق النزاعات. كما يعني تركيز الاهتمام بمناطق النزاع الأكثر توتراً, قدرة الولايات المتحدة على الفوز الخاطف بالحروب والمواجهات المسلحة, وبعدد أقل من الجنود والقتلى والضحايا. بيد أن لانتصارات كهذه, عواقب غير منظورة ولا مقصودة في الغالب. والمعني هنا على وجه التحديد, هو أن النصر العسكري الخاطف السريع, ربما يؤدي إلى انهيار العدو, دون أن يعني ذلك تدميره أو القضاء عليه. ولذلك فإنه يظل في وسع الخصوم الدفع بعملهم إلى السرية من تحت الأرض, وإعادة تنظيم ورص صفوفهم, مما يعني نشوء الحاجة العسكرية, إلى المزيد من القوات والجنود, وبقاء هؤلاء الجنود لمدد وفترات زمنية أطول في مناطق النزاعات هذه.
من هنا تنشأ حاجة الولايات المتحدة الأميركية إلى إنشاء "قوة مهام عامة" على أن تتوفر لها من المهارات والقدرات والعدد الكافي من الأفراد, ما يمكن أميركا من الفوز بال