بعد أكثر من خمسة عقود على سيادة جو من عدم الثقة المتبادلة بين الهند والولايات المتحدة تجسدت على نحو سافر عندما نعت الرئيس الأميركي نيكسون سنة 1971 الوزيرة الأولى الهندية أنديرا غاندي "بالساقطة"، وبعد استكشاف حذر لأجندة الطرفين لما بعد الحرب الباردة، يبدو أن البلدين قررا أخيرا التخلص من شعاراتهما القديمة وفتح صفحة جديدة في علاقاتهما الثنائية. فلم تمض سوى ثمانية عشر شهرا على الاتفاق بين الهند والولايات المتحدة حول التعاون المشترك بين الطرفين الذي تم الإعلان عنه تحت ما بات يعرف "بالخطوات التالية نحو شراكة استراتيجية", حتى قفزت العلاقات بين البلدين إلى مستوى استراتيجي أعمق تبدى بشكل أوضح خلال زيارة الدولة الأخيرة التي قام بها الوزير الأول الهندي د. مانموهان سينج إلى الولايات المتحدة.
وبالطبع لا تخفى على أحد الحوافز المتعددة التي تنتظر الهند من هذه العلاقة. فإذا كانت الولايات المتحدة هي الدولة الأقوى والأكثر تقدما في العالم، فإن الهند في حاجة إليها لدعم التجارة والتكنولوجيا والاستثمارات ولتسريع عجلة النمو الاقتصادي. يشهد الاقتصاد الهندي نموا مطردا بلغ معدله طيلة الربع الأخير من القرن الجاري 6%، وهو مازال يتقدم بخطوات ثابتة حيث بلغ 7-8% خلال الأعوام الأخيرة. وليس ذلك فقط, بل من المتوقع أن يواصل الاقتصاد الهندي نموه ليصل إلى 8% أو أكثر في السنوات القليلة المقبلة. وقد أبدى الكونجرس الأميركي اهتماما بالغا بالاقتصاد الهندي خلال اجتماع مشترك مع سينج على هامش زيارته الأخيرة للولايات المتحدة حيث لفت انتباههم إلى أن أميركا تعد الشريك الاقتصادي الأول للهند، كما أنها المستثمر الأكبر في السوق الهندي. ولم يفت د. سينج، وهو اقتصادي محنك ومهندس الإصلاحات الاقتصادية في الهند في العقود الماضية، أن يدعو الأميركيين إلى مضاعفة استثماراتهم في الهند، خصوصا في المجال التكنولوجي الواعد الذي من شأنه حسب د. سينج "مساعدة الشركات الأميركية على تخفيض تكاليفها وتعزيز قدراتها التنافسية على الصعيد العالمي".
وعلى صعيد التعاون العسكري فإن الاتفاقية الأخيرة التي وقعت في 28 يونيو، كامتداد لاتفاقية أخرى سابقة دامت عشر سنوات، شكلت إطاراً متقدماً للتعاون بين البلدين في المجال الدفاعي. وبموجب تلك الاتفاقية سيكون بمقدور الهند استعمال الأسلحة الأميركية بما فيها الأنظمة ذات التكنولوجيا الفائقة كطائرات ف-16 وغيرها من الأسلحة المتطورة، وذلك لتحديث المنظومة الدفاعية للهند التي تعاني من ثغرات كبيرة في هذا المجال. غير أن الهند التي طالما ساندت السلام والاستقرار عبر العالم أبدت استعدادها التام للتعاون الدولي في مهمات حفظ السلام العالمية شريطة أن يوجد تفويض من الأمم المتحدة. وهذا ما يفسر عدم قيام الهند بإرسال جنودها إلى العراق بالرغم من الضغوط القوية التي مارستها عليها الولايات المتحدة.
ولا تقتصر الحوافز على الجانب الهندي، بل ستستفيد الولايات المتحدة كذلك من سوق سريع النمو تحتضنه دولة ليبرالية وديمقراطية تضم أكثر من مليار شخص. بالإضافة إلى ذلك تسعى إدارة بوش الثانية جاهدة إلى إعادة صياغة استراتيجيتها الكبرى بعد تعثره في ولايته الأولى وبروز متاعب جمة. وتتجلى تلك المتاعب الأميركية بالأساس في تورطها في المستنقع العراقي مع تعالي أصوات من الداخل تدعو إلى سحب القوات من العراق، علاوة على انخفاض أعداد المجندين مما حدا بالجيش إلى تخفيض سن التجنيد أكثر من مرتين خلال ستة أشهر في محاولة لسد العجز الحاصل في عدد الجنود. وتتواصل المتاعب الأميركية بمطالبة قادة دول آسيا الوسطى بسحب القوات الأميركية من تلك المنطقة استجابة للضغوط الصينية والروسية، فضلا عن تصاعد استياء الرأي العام داخل أميركا نفسها. هذا ناهيك عن المصاعب التي تنتظر واشنطن مع النظام الجديد في طهران.
لكن الأهم من ذلك أن أميركا شرعت مؤخرا في تعديل استراتيجيتها على ضوء المتغيرات الجديدة، لا سيما في ظل ما بات يعرف "بصعود الصين". فقد طغى على العلاقات الصينية الأميركية بعض التوتر على خلفية محاولة الصين شراء شركة الطاقة الأميركية "يونيكال" مما أدى بالبعض إلى التخوف من الفائض المالي الذي حققته بكين جراء تجارتها مع واشنطن. كما أن المخاوف الأميركية من قيام الصين بتحديث منظومتها الدفاعية باتت واضحة من خلال التقارير التي ترفعها باستمرار وزارة الدفاع الأميركية إلى الكونجرس وتركز بالخصوص على محاولات الصين تطوير قدراتها النووية وسلاحها الجوي وأسطولها البحري، بالإضافة إلى مساعيها الحثيثة لارتياد الفضاء والسيطرة عليه. ولعل ما زاد من تعقيد المحيط الاستراتيجي في شرق آسيا هو تصاعد التوتر في العلاقات بين الصين واليابان- الحليفة الرئيسية لأميركا في المنطقة- والمشاكل التي ما فتئت تطرحها كوريا الشمالية التي تتمتع بحماية بكين. وقد جاءت التصريحات الأخيرة لبعض كبار الجنرالات في الصين لتؤجج المخاوف الأميركية، خصوصا عندما هددوا علانية بضرب المدن ا