هناك طرق عديدة يلجأ إليها الباحثون والمؤرخون لرواية تاريخ العالم. فهناك من يتتبع أسباب صعود وسقوط الحضارات الغابرة، وهناك من يختار دراسة الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية للشعوب المتنوعة وكيفية تطور أنواع التقنيات البشرية بدءا من التقنيات الزراعية البسيطة في فجر الإنسانية وانتهاء بالتكنولوجيا العسكرية المتطورة للقوى العظمى في عصرنا الحالي. بيد أن الكتاب الذي نعرض له هذا الأسبوع يختار طريقا مختلفا لرواية تاريخ العالم يعتمد فيه أساسا على دراسة اللغات العالمية المختلفة والأسباب التي تؤدي بها إما إلى التمدد والانتشار عبر الأصقاع المختلفة أو إلى الانكماش ثم الاندثار. إنه تاريخ العالم يُروى بلغات متنوعة هي ذاتها التي لثغت بها ألسنة الشعوب عبر الحقب والعصور المتتالية شاهدة على التنوع الحضاري ومدللة على الطابع المؤقت والعارض للحضارات التي يعرفها عالم اليوم.
وبعيدا عن المقاربة اللسانية الضيقة التي تعتمد دراسة بنية اللغة وتطورها عبر التاريخ ينطلق مؤلف الكتاب نيكولاس أوستلير في اتجاه مغاير يروم تتبع تاريخ اللغات عبر معرفة الأسباب الكامنة وراء صعودها في مرحلة معينة ثم سقوطها في مراحل أخرى. وفي الوقت الذي تبدو فيه مقاربة المؤلف على أنها محاولة لتأريخ اللغات العالمية والنبش في ماض سحيق لاستجلاء حقائق نشوء الأبجديات المختلفة وارتقائها في سلم الحضارة الإنسانية، فإن مقاربته هي محاولة لدراسة أيضا تلك الثقافات والحضارات التي انبثقت فيها اللغات العالمية. لذا فبقدر ما يهدف المؤلف إلى دراسة الشروط التي بررت بروز لغات معينة والظروف المساعدة على ذلك، بقدر ما يسعى إلى دراسة الوعاء الحضاري والثقافي الذي احتضن تلك اللغات ودفع بها إلى عنان السماء.
وقبل الدخول في تفاصيل الأسباب المؤدية إلى صعود وسقوط اللغات يبدأ الكاتب بتحديد أهمية اللغة ذاتها ومركزيتها في التاريخ البشري. وهو يجادل في هذا الصدد أن اللغة هي بمثابة المركز الذي تلتف حوله المجتمعات البشرية وهي الرابط الموحد الذي يضمن لحمة المجتمع وتوحده. فاللغة تشكل حسب الكاتب التاريخ المشترك لأفراد المجتمع. لذا يشير المؤلف إلى أن اللغة قادرة لوحدها على منحنا صورة دقيقة عن خصائص المجتمعات المختلفة وما تتميز به من طبائع لا تنعكس إلا على الصفحات الشفافة للغة. غير أن الكاتب لا يقتصر على سبب بذاته عندما يشرع في تشريح العوامل المؤدية إلى انبثاق بعض اللغات واندثار أخرى. فحسب رأيه تتضافر مجموعة من العوامل لتجعل من لغة معينة ذات نفوذ وهيمنة تتعدى مجالها الجغرافي. وقد ترجع تلك العوامل إلى ما هو اقتصادي أو تجاري كما كان عليه الحال بالنسبة للغة الفينيقية التي انتشرت بواسطة المبادلات التجارية التي ميزت شعوب شرق المتوسط في مرحلة تاريخية معينة. بالإضافة إلى ذلك هناك القوة العسكرية التي ساعدت بعض اللغات على التوسع مثل اللغة اللاتينية التي حملتها سنابك خيل الجيوش الرومانية الغازية. بيد أن الغزوات العسكرية لا تبرر لوحدها انتشار اللغات وهنا يضرب الكاتب مثال أميركا الشمالية وكيف تفوقت فيها اللغة الإنجليزية على الفرنسية. ويُعزى المؤلف ذلك إلى أن المستوطنين الناطقين باللغة الإنجليزية كانوا يستقدمون معهم عائلاتهم بنية الاستقرار لذا شكلوا مجتمعات موسعة على خلاف الفرنسيين الذين غالبا ما كانوا يأتون فرادى إلى العالم الجديد بهدف التجارة وليس الاستيطان.
وفي طريقة انتشار اللغات عبر العالم وعبورها للحدود والحواجز الجغرافية يشير المؤلف إلى منعطف حاسم في تاريخ اللغات حدث في 1500 ميلادية عندما بدأت اللغات تتمدد إلى مواقع جغرافية بعيدة عن طريق البحر بعدما اقتصرت عملية انتشار اللغات في السابق على الطريق البري. وقد سهل البحر كثيرا من انتقال اللغات عبر القارات خصوصا في مرحلة الاستكشافات الأوروبية حيث حملت السفن الإسبانية لغة ستعمر طويلا في أميركا اللاتينية وستصبح جزءا أصيلا من ثقافة شعوبها. كما انتقلت اللغة الهولندية مع المستوطنين الأوائل الذين هاجروا إلى جنوب إفريقيا ومازلت آثارها ماثلة إلى حد الآن. غير أن نفس اللغة لم تدم طويلا في مستعمرة هولندية أخرى تعتبر أهم من حيث الكثافة السكانية وهي إندونيسيا، فبالرغم من وصول الاستعمار الهولندي إليها إلا أنه لم يكن استعمارا استيطانيا على نحو ما حصل في جنوب إفريقيا مما أدى إلى محدودية انتشار اللغة الهولندية في إندونيسيا. ونظرا لأهمية الحقبة الاستعمارية في احتكاك شعوب مختلفة مع بعضها البعض فإن الكاتب يتناولها بالبحث والدراسة ليظهر تأثيرها الواضح على انتشار اللغات. ولعل أبرز مثال هو الخطاب الاستعماري الذي كان يروج لمقولة "المهمة الحضارية" حيث يعتبرها المؤلف مرتكزا مهما انطلقت منها اللغات للتمدد في أماكن جغرافية بعيدة عن مواطنها الأساسية. وهو يرى أنه في الوقت الذي نجحت فيه هذه المقولة في صعود بعض اللغات خصوصا في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء التي لم تكتف فيها اللغة الفرنسية بالتمدد، بل قامت بإقص