ثمة مساحة زمنية، بل نوعية، بين الخطاب المراوغ الذي ألقاه رئيس الوزراء الإسرائيلي شارون في "هرتسيليا"، وبين خطابه التوسعي في مستعمرة- "مستوطنة أرئيل" أكبر مستعمرات الضفة الغربية. ففي الخطاب الأول، أعلن عزمه على "الانسحاب" أحادي الجانب من قطاع غزة. وفي الخطاب الثاني أعلن نواياه الحقيقية من وراء "الكرم" الذي أبداه في خطاب هرتسيليا. ففي الوقت الذي تتسارع فيه استعدادات إسرائيل لإخلاء "مستوطنات" قطاع غزة وسط احتجاجات متزايدة من قبل "المستوطنين"، وبمناسبة الذكرى الأولى لقرار محكمة العدل العليا في لاهاي بعدم شرعية بناء الجدار كونه يقام على أرض محتلة، حددت الحكومة الإسرائيلية الأول من سبتمبر القادم موعدا لاستكمال بناء الجدار في محيط مدينة القدس، وذلك بعد أن أقرت مجددا مسار جدار الفصل العنصري في محيط المدينة الذي سيعزل -بعد الانتهاء منه- مخيم شعفاط وبلدة كفرعقب نهائيا عن المدينة لتفصل بذلك أكثر من 100 ألف مقدسي من حملة هوية القدس الزرقاء عن المدينة, ولتعزل القدس المحتلة عن امتداداتها الطبيعية في الضفة. وينص الترسيم الأخير للجدار على جعل مخيم شعفاط وقرية كفرعقب في الجهة الغربية من الجدار. وفي المقابل، سيضم الجدار كافة الأحياء بل المدن "الاستيطانية" في القدس الشرقية, وكذلك المستعمرات المجاورة للقدس مثل "جفعات زئيف" و"معاليه أدوميم" مع ثلاثين ألف "مستوطن". وقرار الحكومة الإسرائيلية هذا مقدمة لسلسلة من خطوات إسرائيلية رامية لإخراج أكبر عدد ممكن من الأحياء الفلسطينية من المدينة. وكما قال الخبير الفلسطيني خليل التفكجي، مدير دائرة الخرائط في جمعية الدراسات العربية في "بيت الشرق"، فإن "ما يجري في القدس إنما هو مقدمة للمخطط الإسرائيلي المطروح للمدينة للعام 2020 وهو أن تكون هناك أقلية عربية في داخل القدس وأن يتم تطهير البلدة القديمة من الكثافة السكانية العربية". وأضاف التفكجي: "إن إسرائيل تهدف من خلال عزل القدس تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية هي, أولا: قضية الديموغرافيا التي ترى الحكومة الإسرائيلية بأنها يجب أن تحسم لصالح إسرائيل وهو ما طرحه القائم بأعمال رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت قبل فترة. أما القضية الثانية, فهي إقامة القدس الكبرى بالمفهوم الإسرائيلي وذلك بضم مستعمرتي "جفعات زئيف" و"معاليه أدوميم" اللتين اصطلح على تسميتهما بالكتل الاستيطانية الكبرى. أما الهدف الثالث, فهو أن يكون الفلسطينيون داخل حدود بلدية القدس الغربية أقلية يسهل السيطرة عليها من جميع النواحي".
إن شارون هو شارون ولن يتغير (اللهم إلا للأسوأ) بالرغم من محاولة وسائل الإعلام الغربية تصوير "انسحابه" من قطاع غزة بأنه تغير في عقلية ونمط تفكير رجل "السلام" هذا! فالانسحاب لم يكن صدفة، أو الدافع وراءه رغبته في السلام، أو الالتزام باستحقاقات خريطة الطريق، وإنما تجاوز واقع استحالة تكوين أغلبية يهودية في بحر من السكان العرب، بالإضافة إلى التكلفة الباهظة لاستمرار احتلال القطاع ماديا وبشريا. ومنذ توليه السلطة، يتبع شارون سياسة تكريس الاحتلال للضفة وذلك بتصعيد وتيرة "الاستيطان" بكافة الأوجه تحت حماية جيش الاحتلال وبقرارات عسكرية رسمية وذلك لفرض وقائع على الأرض يصعب إزالتها مما يؤكد أن سياسة شارون الحقيقية هي تكريس احتلال الضفة وعدم الانسحاب منها. وبالرغم من قمة شرم الشيخ التي أكد فيها الطرف الفلسطيني ضرورة تحقيق السلام بين الطرفين والالتزام بخريطة الطريق، فإن الحكومة الإسرائيلية الجديدة، بعد مشاركة حزب العمل فيها، ما زالت تنتهج السياسة العدوانية نفسها. وليس أدل على ذلك مما كشفته صحيفة "يديعوت أحرونوت" قبل عدة أسابيع عن مخطط جديد لبناء أكثر من ستة آلاف وحدة سكنية خلال المرحلة القادمة في العديد من "المستوطنات" القائمة. ويمكن للمتتبع وتيرة الاستعمار المتصاعدة منذ مطلع العام الاستنتاج بصورة لا يرقى إليها الشك، بان شارون يراهن على عامل الوقت في عدم الاستجابة لاستحقاقات السلام مع الشعب الفلسطيني وفق قرارات الشرعية الدولية وذلك بفرض وقائع استعمارية جديدة على الأرض من شانها أن تدمر أي إمكانية لحل سياسي مستقبلي للمناطق الفلسطينية بما يمكن شعبها من إقامة دولته الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس، بما في ذلك تفكيك المستعمرات-"المستوطنات" وعودة اللاجئين الفلسطينيين وانسحاب إسرائيل إلى حدود العام 1967. فتكثيف عمليات "الاستيطان" وخلق الوقائع الجديدة على الأرض وبخاصة حول مدينة القدس أمور خلقت أوضاعا يصعب تجاوزها في أي مفاوضات قادمة للتسوية، بل إنها تعطي مزيدا من التمسك بفكرة أن الأراضي المحتلة هي مناطق متنازع عليها. وقد لاقى هذا التوجه الشاروني الدعم من الولايات المتحدة وخاصة عقب زيارته لواشنطن حيث قدم بوش ما وصف بأنه "وعد بلفور جديد" لإسرائيل عندما اعتبر بأن بعض مستعمرات الاحتلال تشكل حقائق جديدة على الأرض ولا عودة لحدود يونيو 1967.
لقد أثار قرار الحكومة الإسرائيلية استكمال بناء جدار الفصل العن