لبنان صغير بمساحته، وهو صغير ايضاً بعدد سكانه الذين لا يتجاوز المقيمون منهم ثلاثة ملايين. إلا أن لبنان كبير في رسالة العيش المشترك بين 18 طائفة دينية إسلامية ومسيحية، تتمتع كل طائفة بحقوق خاصة بها لجهة ادارة شؤون الأوقاف، وتشريع القوانين المتعلقة بالأحوال الشخصية وادارة المحاكم الشرعية وبتطبيق هذه القوانين. والديمقراطية في لبنان لا تقوم فقط على حقوق الفرد، ولكنها تقوم أيضاً وأساساً، على حقوق الجماعات الطائفية الثمانية عشرة. من أجل ذلك، أو بسبب ذلك، فإن لبنان ليس مجرد زائد واحد الى عدد الدول العربية. إنه حالة خاصة جداً. وهذه الخصوصية هي التي أملت على جامعة الدول العربية عندما تأسست أن تستبعد من ميثاقها أي نص يلزم الأعضاء بالقرارات التي تتخذ بالأكثرية. ولا تزال محاولات تعديل الميثاق حتى اليوم تقف أمام هذه القضية مراعاة للحساسية اللبنانية المفرطة ونتيجة الخوف من أن تُتخذ قرارات ذات طابع وحدوي تذويبي تتناقض مع الخصوصية اللبنانية.
على أن هذه الخصوصية أكثر ما تكون بروزاً في النظام السياسي اللبناني. إن تشكيل الحكومة في لبنان يفرض مراعاة التوافق على اقتسام المقاعد مناصفة بين المسلمين والمسيحيين. والتوافق على المثالثة في إطار هذه المناصفة بين السنة والشيعة والموارنة. كما يفرض مراعاة حصص المذاهب الاسلامية: السنة والشيعة والدروز والعلويين، وحصص الكنائس المسيحية: الموارنة والأروثوذكس والكاثوليك والأرمن والانجيليين. مع الأخذ بالاعتبار حصص الأحزاب السياسية والكتل البرلمانية. وحصص المناطق المختلفة في الشمال والجنوب وفي البقاع والساحل. وفوق ذلك كله لا بد من مراعاة الكفاءات حيث يتم اختيارهم على أساس قاعدة احترام التقاسم الطائفي والمذهبي. حتى إذا تحقق ذلك كله, تجري عملية احتساب توزيع الحقائب الوزارية التي تنقسم الى أربع مجموعات.
أولاً: مجموعة الحقائب السيادية التي تتضمن وزارات الداخلية والدفاع والخارجية والمالية، وهي الوزارات التي يصنع فيها القرار السياسي والتي تتحقق من خلالها المشاركة في السلطة. ثانياً: مجموعة الحقائب الخدماتية، التي تتضمن وزارات الأشغال العامة، والموارد المائية والكهربائية، والعمل والشؤون الاجتماعية والتربية والإعلام، وهي وزارات إنفاقية للمال العام لما تقدمه من خدمات للمواطنين، ويشكل التهافت عليها جزءاً من عملية تنمية الشعبية أو المذهبية أو الطائفية أو الحزبية أو الشخصية. ثالثاً: مجموعة الحقائب التشريفاتية والتي تتضمن وزارات الإصلاح الإداري والبيئة والسياحة والثقافة. رابعاً: مجموعة الحقائب الاسترضائية وهي وزارات مستحدثة باسم وزير دولة لشؤون مجلس النواب مثلاً، وهي وزارات يتولى الوزير إدارة شؤونها أحياناً من بيته أو من مكتبه الخاص.
يضفي على هذه التركيبة المعقدة في الوقت الراهن أمران اضافيان. الأمر الأول هو قرار "حزب الله" الذي قاد المقاومة ضد الاحتلال الاسرائيلي وأنجز بتضحيات كبيرة تحرير الجنوب اللبناني، المشاركة في الحكومة لأول مرة. ولكن الولايات المتحدة تصنفه حزباً ارهابياً، وقرار مجلس الأمن الدولي 1559 ينص على وجوب تجريده من السلاح. فكيف تتعامل حكومة يتمثل فيها "حزب الله" مباشرة مع هذا الموقف الدولي؟. لقد ردّ الحزب على هذا السؤال بطلب منحه حقيبة وزارة الخارجية كردّ للتحدي بتحدٍ مثله. تريد الولايات المتحدة كما يعلن مسؤولو الخارجية الأميركية أن ترى "حزب الله" منغمساً في التركيبة السياسية اللبنانية، اعتقاداً منها بأنه كلما تسيّس الحزب تقلّ عسكريته. ولكن الرغبة الأميركية في تسييس الحزب لم تصل الى حد قبول إدارته لحقيبة وزارة الخارجية. فكان الحل الوسط بأن تسند هذه الحقيبة الى دبلوماسي شيعي متقاعد هو الدكتور فوزي صلوخ. ولكن كيف يمكن للحكومة الجديدة أن توفق بين الالتزام بالقرارات الدولية، بما فيها القرار 1559 الذي يقول بتجريد "حزب الله" من السلاح - وكذلك تجريد المخيمات الفلسطينية من السلاح -، وبين تمسك الحزب بسلاحه طالما أن اسرائيل تشكل خطراً على لبنان، ووجود وزير يمثل "حزب الله" في الحكومة هو الحاج محمد فنيش؟!
لو أن "حزب الله" بقي خارج الحكومة الجديدة لشكل ذلك مشكلة. ولكن دخوله الحكومة في ضوء المعطيات التي يطرحها القرار 1559 يشكل مشكلة من نوع آخر. والحكومة اللبنانية الجديدة تجد نفسها محشورة بين نقيضين: الشرعية الدولية ممثلة في القرار, 1559والشرعية الوطنية ممثلة في "حزب الله" وسلاح المقاومة. أما الأمر الثاني, فهو قرار رئيس الجمهورية الذي جرده الدستور الجديد من سلطة إقالة الحكومة أو اقالة مجلس النواب، على أن يكون له حق تعيين ثلث الوزراء على الأقل، وذلك حتى يتمكن من التحكم في أعمال الحكومة أو بتعطيل أعمالها إذا دعته الحاجة الى ذلك. وهذا الثلث يتحرك في ضوء القضايا التي تطرح أمام مجلس الوزراء، بمعنى أنه لا توجد كتلة وزارية واحدة ثابتة ودائمة في مجلس الوزراء تتحرك تلقائياً للتعطيل أو للتسهيل والتمرير. ولا يتضمن الدستو