لم يعد انسحاب القوات الأميركية والبريطانية واحداً من سيناريوهات يمكن تداولها في مناقشة حول مستقبل العراق. فقد أصبح هذا الانسحاب خياراً انتقل من مرحلة البحث فيه ضمن بدائل أخرى إلى مرحلة التخطيط لبدء تنفيذه خلال العام المقبل، أي وضع الخطة الملائمة بانتظار القرار.
هذا هو مؤدى وثيقة "جون ريد" التي كشفتها صحيفة "ذي ميل أون صاندي" في عددها الصادر في 10 يوليو الجاري. تفيد هذه الوثيقة، التي أعدها وزير الخارجية البريطاني "ريد"، ان بلاده والولايات المتحدة تخططان لخفض قواتهما في العراق بحلول منتصف 2006، بحيث تسحب لندن 5500 جندي فيما تسحب واشنطن 110 آلاف عسكري.
فلن يكون في إمكان إدارة بوش بصفة خاصة أن تتحمل التكلفة السياسية لإبقاء القوات الأميركية في العراق، لأن الثمن قد يكون غالياً جداً في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في نوفمبر 2006. وها هي الأنباء تتوالى في كل يوم عن ازدياد معارضة الأميركيين لوجود قواتهم في العراق. وبالرغم من أن "السيناريو الفيتنامي" ما زال بعيداً، وقد لا نراه بحذافيره أبداً في العراق، فهناك مزيد من الأميركيين ينضمون تباعاً إلى المطالبين بالانسحاب، ومن بينهم أعضاء كونجرس جمهوريون وناخبون اقترعوا لمصلحة بوش في الانتخابات الأخيرة. ولا يستطيع الرئيس الأميركي أن يغامر فيعرَّض حزبه لانتكاسه كبرى في نوفمبر 2006، ولكن الأرجح أنه سيرجىء إعلان جدول زمني للانسحاب إلى آخر وقت ممكن حتى لا يوجه رسالة خاطئة إلى الجماعات المسلحة.
وهكذا بات الانسحاب الأميركي والبريطاني قريباً، وهذا أمر إيجابي بشرط أن يكون العراقيون قادرين على ملء الفراغ الذي سيتركه الخارجون، عبر تفعيل عملية بناء نظام ديمقراطي يوفر للجميع فرص المشاركة على قدم المساواة من دون تمييز طائفي مذهبي أو عرقي. ولكن ليس ثمة ما يدل على ذلك حتى الآن. وليست المشكلة في نقص القوات العراقية، وإنما في ضعف استعداد نخبة الحكم الحالية والائتلافين اللذين تستند إليهما لعمل ما ينبغي عمله لخفض التوتر وتغيير الظروف التي تؤدي إلى ازدياد معدلات العنف وتضع العراق اليوم على أعتاب حرب أهلية. فالاستقرار المنشود في العراق لن تحققه القوة وحدها، وإنما يصنعه أداء حكومي منفتح يؤسس لعراق ديمقراطي حقاً لكل أبنائه بعيداً عن نزعات الانتقام والثأر.
وهذا هو أهم ما ينقص العراق الآن, بالرغم من الجهد الكبير والصادق الذي يبذله رئيس الحكومة الحالية د. إبراهيم الجعفري. فهذه الحكومة تقوم على تحالفين قلقين، أولهما تغلب عليه صبغة مذهبية، والثاني يجمع هذا التحالف وتحالفاً كردياً. وفي ظل هذين التحالفين، يبدو رئيس الحكومة مقيداً بتوازنات صعبة ودقيقة تكبل حركته، بل ربما تقيد تفكيره وتمنعه عن التحليق في آفاق لا يمكن للعراق أن يتعافى من دون أن يرتادها. ويؤدي ذلك إلى بطء شديد في حركة حكومته. فبعد أن استغرقت مفاوضات تشكيل هذه الحكومة أكثر من ثلاثة شهور، اقتضى الأمر أكثر من شهر لتقديم برنامجها إلى الجمعية الوطنية، ولكن الأكثر خطراً هو أن هذا البرنامج اتسم بعمومية شديدة وصيغ بلغة إنشائية لم يعد لها مكان في عالم اليوم، فضلاً عن أن ظروف العراق تجعله في أمس الحاجة إلى لغة محددة تعتمد على بيانات وإحصاءات دقيقة.
ولأن فترة هذه الحكومة محددة ويفترض ألا تتجاوز نهاية العام الجاري، فقد كان عليها أن تقدم برنامجها في صورة خطة محددة ومركزة ومبرمجة زمنياً، وليس في شكل بيان إنشائي عام. ولكنها تتصرف وكأنها لا تدرك أن الازدياد المستمر في أعمال العنف خلال الشهور الأخيرة لا يقاس خطره كماً فقط، لأنه ينطوي على إرهاصات تحول نوعي مخيف باتجاه حرب أهلية في مرحلتها الأولى. ويزداد هذا العنف بالرغم من توالي العمليات العسكرية الكبرى التي تقوم بها القوات العراقية الجديدة.
وكلما تواصل هذا العنف فازداد كماً وتحول نوعاً في الاتجاه الطائفي، لابد أن تتصاعد الدعوة في دوائر صنع القرار في واشنطن إلى وضع جدول زمني لانسحاب القوات الأميركية من العراق. لقد وصل عدد أعضاء الكونجرس الذين يطالبون بذلك إلى أكثر من مائة نائب وشيخ من الحزبين الديمقراطي والجمهوري حتى نهاية الشهر الماضي.
والمعضلة الآن هي أن الوقت المتاح قليل، فإذا كان منتصف 2006 موعداً مرجحاً للبدء في سحب القوات الأميركية والبريطانية، لابد أن يصدر قرار بذلك في موعد لا يتجاوز بداية العام المقبل. والأرجح أن يصبح هذا القرار معلوماً قبل ذلك بأسابيع، ولذلك فما لم تنجح الحكومة العراقية في خفض مستوى العنف تدريجياً خلال الشهور الأربعة أو الخمسة القادمة على الأكثر، ستجد الجماعات المسلحة في قرار بدء الانسحاب الأميركي والبريطاني حافزاً معنوياً ومادياً قوياً لمزيد من التصعيد العسكري. وعندئذ يصبح سيناريو الحرب الأهلية هو الأرجح بكل أسف.
لقد كان في الإمكان تجنب هذا السيناريو المخيف لو أن القوى التي شكلت الحكومة العراقية الحالية أدركت حجم المشكلات وخطرها تمام الإدراك. ولا يمكن تحميل د. الجعفري وحده المسؤولية ب