قادتني الصدفة إلى أمام منزله بعد أن تهت في زحمة المدينة التي أصبحت لا تطاق باكتظاظ سياراتها والبشر المتدافعين في ماراثون سرقة الفرح ونهب الثروة. سألت: منزل من هذا؟ فأنا لا أعرف دبلوماسيا يسكن في هذا الحي. صعقتني الاجابة. إنه منزل فلان... ولم أعلق. في المساء كان يقف مفتتحا مشروعا. صرخ في جمع الصحفيين بينما كانت الأكف تحترق وهي تصفق له. لم يكن قبل أعوام مضت إلا موظفا عاديا تسلق السلم متأرجحا, وعرف من أين تؤكل الكتف والمفاصل والأحشاء, وطار نجمه عاليا, لمعته بعض الاقلام التي تدعي الشرف والنزاهة وحولته في غفلة من الساعات الى أسطورة. كذب عليه الجميع والأدهى من كل هذا أنه صدق الكذبة, وعاش الدور, وصار همه البحث عن أكف تصفق له في كل محفل. ما أراده كان سهل التحقق. فالمال في يديه والضمائر الخربة تطلب وده والظرف الزمني والوضع المأساوي الرمادي منحه مساحة حرة للحركة. ما كان ينقصه إلا عدة حناجر تهتف باسمه, ولم يجد بدا من تشكيل فرق عمل للتدرب على الخطاب الحنجوري والهتاف باسمه في كل مناسبة. لم يعترف قط بأنه تورم أكثر من اللازم. ولم يعترف بأن العالم حوله قد تغير كثيرا وأن شبكة الانترنت تحمل أخباره التي لا تسر, بصورة شبه يومية. ونسي في غمرة الموت الخاصة به, الحكمة التي علقت على باب من أبواب الكويت وهي تقول "لو دامت لغيرك ما وصلت إليك".
حالة هذا العربي الذي تورم كثيرا فحمل السوط وجهر بالصوت مناديا وبكل استخفاف بأنه الأفضل والأحسن والأذكى والأدهى والأقدر على التناسل وممارسة هواية الطلاق, وأن الأمور لن تستقيم بدون رأيه, وأن الحياة ستتوقف عندما يسلم الروح الى بارئها... إن حال هذا المسكين تذكرنا بل تحيلنا بشدة للتفكر في حال معظم الزعامات العربية, منذ أن توقف العقل النقدي للعرب. يقول الدكتور يوسف سلامة إن هذا التوقف حصل بعد أن غاص العرب في غياهب الحكم المملوكي والعثماني والاوروبي الاستعماري, وخرجوا من تلكم التجارب وهم لا يملكون الا تراثهم, وهو تراث وضعهم في مواجهة حادة مع عالم جديد متطور علميا, ومتقدم تقنيا, فأصبحوا في حالة تخبط فاقدين أية وسيلة للتعامل مع العالم الجديد. وسقطوا في امتحان المواجهة, وحتى في امتحان النسخ والتقليد, ولم يتمكنوا من الإتيان بثقافة جديدة تمكنهم من التصدي لهذا العالم الجديد الذي تنتجه أوروبا.
إن الواقع العربي في أزمته الراهنة, هو صورة مكبرة من تورم هذا النفر واستفراده بالقرار, وهي صورة لذلك الإلتصاق القدري بالكرسي. فأنى تلفت شرقا أوغربا لن تجد امبراطورية او دولة او حتى قرية يحكمها شخص بعينه او بواسطة أحفاد أحفاده لأكثر من قرن من الزمان, إلا ويجثم القهر والاستبداد على صدرها. فلا تتنفس الا من زفير الحاكم ولا تبصر الا صوره وتماثيله معلقة على الجدران ومنصوبة في الساحات. ولو قدر للأصنام أن تزرع مجسمات صغيرة تحت عظام الصدر لما تردد بعض العسكر من فعل ذلك.
معضلة العالم الثالث انه يعيش مأساة مركبة بين قهر الحاكم المستبد وساديته وبين انكسار الانسان التابع ومازوخيته. فكم تهتف الحناجر للزعيم الأوحد؟ وكم سالت الدماء تحت قدمي الزعيم في مشهد أسطوري يذكرنا بمشاهد غسل الخطيئة بالدم, والاعتراف بألوهية الصنم كما في العبادات القديمة. لقد ساهمت فكرة التأليه على مستوى الشعوب المقهورة في صناعة القهر واستعذاب الألم. فكم مرة احمرت الأكف وهي تصفق للزعيم, بينما الزعيم يأمر زبانيته برمي المتظاهرين بالرصاص حتى لا تصل الجموع الى بوابة القصر.
كم رويت قصص التعذيب التي تعادل في وحشيتها أقوى سيناريوهات أفلام الرعب, وبعدها ارتفعت الأكف بالدعاء الى الخالق بأن يمد في عمر الرمز. وكم نبشت القبور الجماعية لتصحو الانسانية على واحدة من افظع الجرائم التي ارتكبت في حق الانسانية, وصدحت الخناجر بالزعيق مبررة فعلة الزعيم, وأن المرحلة كانت تستدعي التعامل مع الخونة بهذه الكيفية, وامتشق المحللون الجهابذة سيوف ألسنتهم السليطة وتمترسوا خلف كاميرات الفضائيات الموغلة في التوحش يطرزون ويجملون تصرفات وقرارات الزعيم, مدعين أن المقابر الجماعية لم تكن إلا ضريبة للوطن.
عندما يسرق الرمز شوال طحين وقنينة زيت, وعندما يفتقد المصباح زيته لأن سعر جالون البترول يعادل نصف راتب الموظف البسيط, هنا تسقط الحجج وهنا وعلى صفحة التاريخ يكتب البسطاء المفردة الاولى في البيت الاول لقصيدة الإحساس بالظلم والمهانة ويحملون الغضب, ويعبئون الزجاجات الفارغة بدم القلب لصناعة قنابل الملوتوف. فما الذي يجدي عندما يسحق الجسد وتموت الروح؟ يموت الناس من الجوع بينما تقف السفن المحملة بالقمح الاميركي وتوزع الدجاجات المهرمنة والمتسرطنة هدية من الغرب لعرب أكفهم تحمر من التصفيق للرمز.
في "الوادي"-برنامج من تلفزيون الواقع- يصنع مواطن عربي جديد مواطن يهرج ويضحك ويمارس حياته في واقع منفصل عن واقعه المعاش, بينما تنفجر سيارة مفخخة في الاشرفية. وتصحو على مشهد الموت في شرم الشيخ... ويموت البسطاء. ويسقط في لندن أمو