أبدأ هذا الأسبوع بما ختمت به مقالة الأسبوع الماضي من أننا في المرحلة الراهنة "أمام مثلث ثقافة الهزيمة العربية: ضعف الدولة، والإرهاب، ولغة الهجاء والاعتذار". أبدأ بهذا ليس فقط لأن الموضوع متصل، ويحتاج إلى مزيد من التفصيل والتوضيح، بل أيضا لأنه بعد المقالة السابقة ضرب الإرهاب مرة أخرى، ضربة بشعة وعبثية في شرم الشيخ، في مصر.
ما هي العلاقة بين الإرهاب وثقافة الهزيمة؟ ثقافة الهزيمة هي مجموعة القيم والمواقف والرؤى التي ترى ضرورة القبول بالواقع القائم على علاته، ومن دون أي تساؤل يؤدي إلى عكس ذلك. يقول أصحاب هذا المنهج إن موقفهم يستند إلى العقلانية، وما تقتضيه من واقعية تفترض عدم الاصطدام بالواقع من خلال إخضاعه للتساؤل، ومحاولة اكتشاف إمكانية تغييره، أو إصلاحه، أو تعديله، أو ...الخ. بالنسبة لأصحاب ثقافة الهزيمة هذا نوع من معاندة الواقع لا طائل من ورائه. حتى وإن كان الواقع يسير من سيئ إلى أسوأ فإن واجبنا، والتزاما بمقتضيات الواقعية، أن نتكيف معه وأن نتعايش مع معطياته وتحولاته. تبدو هذه الرؤية وكأنها تذهب بعيدا في اعترافها بالواقع، ومن ثم تمثل شكلا من أشكال العقلانية، حتى وإن كانت مفرطة. لكنها على العكس من ذلك. فثقافة الهزيمة هي كذلك، شكل مغلف لعدم الاعتراف بالواقع والانهزام أمامه. عندما تقول بأنه لا يجب معاندة الواقع بإطلاق هكذا، بل يجب قبوله والخضوع لشروطه بشكل مسبق، والانحناء لإكراهاته، فأنت في واقع الأمر تهرب من هذا الواقع لتحتمي بنوع من القبول والاستسلام لإكراهاته. قبول إرادي واستسلام واع. وبالتالي فإن نظرية "العقلانية والواقعية" المزعومة هنا ليست أكثر من غطاء أيديولوجي لهذا القبول، والاستسلام لكل مقتضياته من دون شروط. الإصرار على قبول الواقع هكذا من دون شروط هو في الواقع هروب من الإشكالية، وانهزام أمام واقع غير قابل للتغيير، أو هكذا يبدو لأرباب ثقافة الهزيمة.
أوضح من يمثل هذا المنحى في الثقافة السياسية العربية هذه الأيام هم الموغلون في هجاء الإرهاب، الذين يرفضون بشكل قاطع فكرة أن هناك سببا للإرهاب من خارجه، أو أن هذا الإرهاب بزغ من واقع سياسي معين. الإرهاب بالنسبة لهؤلاء ولد نفسه بنفسه، ولا علاقة له بما حدث ويحدث في العالم؟ المسؤول عن الإرهاب هو الفكر الإرهابي الذي يقدم له التبرير. من أين جاء هذا الفكر؟ جاء من تلقاء نفسه، ومن دون تأثيرات أو تدخلات من خارجه. هجاؤو الإرهاب يفصلون الإرهاب والفكر الذي يستند إليه عن الواقع بشكل كامل، كأنه لا أب ولا أم له. ليس له أصل أو جذور يمكن إرجاعه إليها. وبالتالي ليس هناك حاجة لتسبيب الإرهاب. كل ما هو مطلوب هو الاستمرار في هجاء الإرهاب وشتمه، والإكثار من ذلك في كل مناسبة كصيغة أخرى ربما لقراءة التعويذة عليه بأمل أن يذوب ويتلاشى من تلقاء نفسه، كما فعل في أول نشأته وظهوره.
بهذه الصيغة يصبح هجاء الإرهاب نوعا من الهستيريا الفكرية التي لا تختلف عن هستيريا الفكر الذي يغذي الإرهاب. كلاهما نتاج واقع سياسي واجتماعي مأزوم، وكلاهما يعبر بشكل محزن عن حالة انهزام تتفاقم أمام هذا الواقع. مأزق ثقافة الهزيمة ممثلة بهجائي الإرهاب أنها لا تستطيع الاعتراف بأن الواقع معادلة، وأن المعادلة علاقة تلازم بين أكثر من طرف. لا يمكن من الناحية العقلية وجود طرف دون الآخر. بل حتى من الناحية التاريخية لم يحدث مثل هذا أبدا. هذا من مسلمات المنطق، ومن بديهيات التاريخ. لكن هجائي الإرهاب، ورموز ثقافة الهزيمة لا يريدون الاعتراف أن الواقع معادلة، وبالتالي يرفضون الاعتراف من الواقع إلا بطرف واحد، هو الإرهاب. وعندما تسأل من أين جاء الإرهاب؟ يأتيك الجواب على شكل اتهام جاهز، بأن هذا سؤال يبحث عن تبرير للإرهاب.
الواقع بالنسبة لثقافة الهزيمة هو كذلك، كتلة قائمة، يجب قبوله والاستسلام له من دون أي سؤال. يغيب عن هؤلاء حقيقة أن الإرهاب الذي يهجونه صباح مساء أصبح الآن جزءا من الواقع السياسي العربي، بل والدولي، وأن استئصال الإرهاب أو تحجيمه هو في نهاية الأمر تغيير في هذا الواقع. وأن هذا التغيير يتطلب مواجهة ما معه. يقبل هجاؤو الإرهاب استئصال هذه الظاهرة، لكنهم يشترطون أن يتم ذلك بمعزل عن الواقع؟ كيف؟ لا يمكنهم الإجابة إلا بالاعتراف أولا بالواقع.
خذ مثلا القول بأن الحرب على العراق هي السبب وراء تفاقم ظاهرة الإرهاب. بالنسبة لهجائي الإرهاب هذا رأي مرفوض جملة وتفصيلا. ولدعم رفضهم يستشهدون بتفجيرات شرم الشيخ، ثم يتساءلون: ما علاقة مصر بحرب العراق؟ ربما أمكن قبول تفسير تفجيرات لندن بالدور البريطاني في هذه الحرب؟ لكن بما أن مصر ليست متورطة في هذه الحرب لا سياسيا ولا اقتصاديا، فكيف نفسر تفجيرات شرم الشيخ في هذه الحالة؟ هذا سؤال تبسيطي بشكل مذهل. هل لا بد أن ترسل مصر قوات إلى العراق حتى يمكن القول بأن لها علاقة بالحرب التي تدور على أرضه؟ ثم هل حرب العراق شيء معزول عن كل ما يجري في المنطقة؟ لاحظ تجزيء الواقع، ومن ثم رفضه بالكامل. الواقع كمعا