كانت آخر نتائج استطلاعات الرأي الصاعقة هنا في الولايات المتحدة الأميركية, تلك التي توصل إليها "مركز بيو للأبحاث". وتشير تلك النتائج إلى تناقص عدد الأميركيين الذين يتمسكون بتعاطفهم مع الحرب على العراق. ووفقاً لاستطلاعات الرأي الأخيرة المذكورة, التي أعلنت نتائجها في شهر يونيو المنصرم, فإن نسبة 44 في المئة من الأميركيين, لا يشعرون اليوم بأي تعاطف مع تلك الحرب. وبهذه المناسبة فإن واحداً من أهم الدوافع والأسباب التي جعلت الجيش الأميركي يصر إثر حرب فيتنام على أن تكون الخدمة العسكرية خدمة تطوعية بالكامل, هو انتزاع الحرب من يد المواطنين المدنيين والساسة الهواة, وردها إلى خبازيها المحترفين في فنون الحرب والقتال. بيد أن المؤسسة العسكرية الأميركية فشلت في مسعاها ذاك, وبالتالي أخفقت في إبعاد الاستراتيجيين الهواة, عن التحكم بشؤون وتخطيط الحرب. ولذلك فقد انحصر الدور العام للجيش الأميركي في الحرب الأخيرة على العراق, إما في إرضاء الإدارة أم التزام الصمت والكف عن التدخل فيما لا يعنيه!
وعلى الرغم من أن القاعدة العامة العسكرية تقتضي أن يكون لأي جيش من الجيوش, نظام من الضبط والربط العسكريين, إلا أن هذه القاعدة لا تجد لها صدى يذكر وسط أفراد الجيش الأميركي, المؤلف من جنود ومقاتلي الخدمة الإلزامية في معظمه. وبما أن قراء هذا المقال-الاميركيين- يؤلفون ما يمكن تسميته بالنخبة المهمومة بالسياسات القومية العامة, فإن من الواجب أن نسأل عن, لكم من هؤلاء أزواج وزوجات وأبناء أو أقارب عسكريون يقاتلون الآن في العراق؟.
أما عامة العسكريين داخل المؤسسة, فإنهم أكثر فقراً وأقل تحضراً وأشد انتماءً للريف, بل ربما أقل تعليماً من أقرانهم الذين لهم من المشاغل والاهتمامات, ما يلهيهم ويقتل حماسهم للانضمام إلى صفوف المؤسسة العسكرية. وبعد, أوليس صحيحاً أن الفقراء والجهلاء في مجتمعنا يبذلون الروح والدماء مثل غيرهم من سائر البشر؟ بلى بالطبع, بل الصحيح أنهم الأكثر بذلاً وتضحية بأرواحهم ودمائهم فداءً لوطننا. ولكن من ذا يهتم ومن ذا يبالي؟
وخلال حرب فيتنام, كان جيل من المواطنين العسكريين والحركة المناهضة للحرب, قد تمكن من وضع حد لتلك المأساة. لكن وعلى رغم ذلك, فقد نشأ حاجز غير رسمي –إلا أنه كان على قدر كبير من التأثير والفاعلية- أسهم في بنائه مختلف اللجان والأطباء الأصدقاء, وإداريو الجامعات والكليات, وأولئك الأفراد الذين تربطهم علاقات وصلات مختلفة مع المؤسسة والدوائر السياسية. وقد كان الهدف الرئيسي وراء إنشاء هذا الحاجز, هو تجنيب الكثير من بنات وأولاد النخب الأميركية, ويلات الحرب ومأساتها, التي كان يشعر بها الكثيرون منا وقتئذ. يشار إلى أن الأمر كان مختلفاً جداً قبل عقد واحد من الحرب الفيتنامية. والمقصود هنا هو أن حاجزاً كهذا لم يكن له وجود إبان الحرب الكورية, التي يكاد يكون الجميع قد أسهم فيها دون امتياز أو استثناء لأحد.
وكان طبيعياً أن يرغم الرأي العام, مسؤولي واشنطن على التوصل إلى نتائج وخواتم لم تكن مرضية للإدارات الأميركية سواء في حرب فيتنام أم الحرب الكورية. وربما لا يذكر الكثيرون منا اليوم, أن سلوكنا في حرب فيتنام كان شبيهاً باستراتيجية "قطع المهام والهروب", تاركين بذلك حكومة فيتنام الجنوبية وشعبها, في مواجهة قدرهما المأساوي المحتوم. أما في الحرب الأخيرة التي خضناها ضد العراق, فإن المواطنين الأميركيين لم يستشعروا ارتياحاً حيالها منذ بداياتها وقبل انطلاقها. ونتيجة لذلك, فقد كان قبولهم للمبررات التي سيقت لهم لشن تلك الحرب, أي للانتقام والثأر من هجمات الحادي عشر من سبتمبر, التي طالت حياتهم وأمنهم, فاتراً وخالياً من أي قدر من الحماس. غير أن فورة من الحماس الوطني, أعقبت تلك البدايات الفاترة, جراء انسياق الكثيرين وراء الصبية الفرسان, وهي الفورة التي طأطأ لها بعض أعضاء الكونجرس الرؤوس خجلاً اليوم. وبعض مظاهر ذلك الخجل من الاندفاع الصبياني المتهور, عودة "المقليات الفرنسية" إلى قوائم الطعام داخل مبنى الكونجرس الأميركي نفسه اليوم! أما الرئيس فتبدو عليه سيماء الغبطة والرضا, حيال ما تراءى له على أنه معركة خفيفة رشيقة, حالما تكلل فيها قواته بالنصر المؤزر! والقاعدة العامة التي تنطبق هنا بالطبع, هي أنه من الجيد دائماً للسمعة الرئاسية, أن تنتشر أخبار الفوز والانتصار في الحروب. وهنا تكمن الغبطة والسعادة.
أما المفكرون المنحازون إلى معسكره, فكانت لهم طموحات ومآرب تتجاوز تلك الغبطة الخارجية بكثير. فقد كانوا يشهرون تحديهم السافر لكل ما رأوا فيه عيباً أوعقبة ناشئة عن الديمقراطية نفسها, تعترض طريقهم وطموحاتهم. كما امتد تحديهم إلى ما رأوا فيه عدم مسؤولية من قبل الرأي العام. وروجوا ودقوا الطبول لفكرتهم القائلة, إن من أوجب واجبات الدولة, أن تنهض بحماية مواطنيها ورعاياها ضد أعدائهم. وما كان لهؤلاء إلا أن استخدموا الجنود والمقاتلين المحترفين, مجرد أداة لتنفيذ هذه الأفكار وترجمتها إلى عمل عسكر