يقوم رئيس الوزراء البريطاني توني بلير منذ هجمات لندن بحملةٍ مكثَّفة على جبهتين: جبهة الإسلام والمسلمين، وجبهة المعارضين والناقدين البريطانيين. في الجبهة الأولى يقول المسؤول البريطاني الكبير إنّ الحرب حربٌ داخل الإسلام وخارجه، وإن على المسلمين في بريطانيا وفي العالمين العربي والإسلامي الإصرار على إدانة التشدد وأيديولوجياته، والانتحاريات ومسوِّغاتها؛ لأنّ ذلك في صالحهم من جهة باعتبارهم يريدون العيش في العالم ومعه، ولأنّ التشدد والانتحاريات مضرةٌ بالإسلام نفسه، إذ تُلحقُهُ بقوى الغدر والشرّ؛ بينما هو في الحقيقة ديانةٌ عالميةٌ محترمة.
أما على الجبهة الثانية، جبهة المعارضين والمنتقدين من البريطانيين وغيرهم؛ فيُصرُّ بلير على خطأ الربط بين هذه الهجمات الانتحارية، والأوضاع السائدة في العراق وفلسطين وأفغانستان. فهذه قضايا سياسية واستراتيجية لا يفيدُ فيها قتل المدنيين في شوارع لندن أو مدريد أو نيويورك. ثم إنّ ذاك الربط بالذات.( كما فعلت كلير شورت الوزيرة السابقة في حكومة بلير والتي خرجت من الوزارة بعد شنّ الحرب على العراق) يشكّل تسويغاً وتبريراً لأعمال الإرهابيين المؤذية والشريرة ضدَّ المدنيين، وضدّ الحضارة والإنسانية.
وكان بلير قد تميَّز في شهور ما بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 بالدعوة المتكررة للمسلمين للعودة إلى ما سمّاه الـ Main Stream أو توجُّه التيار الرئيسي أو الأكثرية؛ في الوقت الذي كانت فيه إدارة الرئيس بوش على لسان الرئيس نفسه ووزير دفاعه، ومفكّرين أميركيين تدعو المسلمين لاستنقاذ الإسلام من الذين اختطفوه من المتطرفين، ولتغيير مناهج التعليم الديني لمنع تفريخ أجيال جديدة من المتشددين، ولنشر ثقافة التنمية والديمقراطية؛ وصولاً – كماهو معروف- لمشروع الشرق الأوسط الأوسع الذي دخل فيه حلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي.
إنّ الجديد في هجمات لندن -سواءٌ أكانت القاعدة وراءها أم لا- أنّ كلَّ المشاركين فيها هم من غير العرب. بل والذي يبدو, أنَّ تنظيم أبي حفص المصري الذي ادّعى المسؤولية عن الهجمات هو تنظيمٌ وهمي. ولستُ أقصِدُ من وراء إبعاد الشُبهة عن العرب، أننا تجاوزنا المشكلة، وأنها انتقلت إلى الشعوب الإسلامية الأخرى, بل ما أقصِدُهُ العكسُ تماماً. فالانتحاريون في السعودية عربٌ سعوديون، والانتحاريون العراقيون عربٌ من العراق وغيره، وكذلك انتحاريو الدار البيضاء. مغاربةٌ . كما أنّ الانتحاريين والتفجيريين في مدريد عربٌ في أكثرهم أيضاً.
هجمات لندن تدلُ إذن على أنّ الظاهرة الانتحارية صارت ظاهرةً إسلامية تضمّ العرب وغيرهم. ولذلك فإنّ كلام بلير وتوماس فريدمان( في النيويورك تايمز الأسبوعَ الماضي) أنّ الإسلام في خطر، صحيحٌ تماماً، ولا يصحُّ الاستخفافُ به أو الدوران حوله. فمنذ أكثر من عقدين أُصِرُّ على عدم التفرقة بين الإسلام والمسلمين، بخلاف ما فعله الإمام محمد عبده، واستغلَّه الأصوليون والمتشددون وبنوا عليه نظامَهُمُ الفكريَّ كلَّه. قال محمد عبده إنّ في أوروبا إسلاماً ولا مسلمين، وفي البلدان الإسلامية مسلمون ولا إسلام! وهذا ما أقام عليه الأصوليون أُطروحتَهُمُ القائلة إنّ الإسلام أُخرج من الدولة في البلاد الإسلامية، وهو يوشكُ أن يُخرجَ من المجتمع، فلا بد من إعادة فرضه بالقوة، ومن خلال الاستيلاء على الدولة بالذات!
وهكذا فالذي أراه أنّ الدين الإسلاميَّ يتعرض للأخطار الكبيرة الآن: في العالم بسبب الأضرار الكبرى التي ألحقها المتشددون والانتحاريون به، إذ أعطوا صورةً عنيفةً عن الإسلام ما عادت مكافحتُها ممكنةً ما دامت الأحداث والهجمات والانتحاريات مستمرة. ثم إنهم حكموا على المسلمين بأوروبا والولايات المتحدة بالشكوك وبالتضييق وبالملاحقة إلى عقودٍ قادمة. بيد أنّ الإسلام يتعرضُ لأخطارٍ في دياره الأصلية أيضاً بسبب فوضى المفاهيم، وضعف الرؤيويين والإصلاحيين، وإنهيار المؤسسات التقليدية العريقة، وعدم وجود بدائل يستطيع الشبانُ الوصولَ إلى اقتناعٍ بها أو اعتصامٍ بعلمائها ومفكِّريها.
ماذا يقصدُ توني بلير بالعودة للاتجاه الرئيسي واتجاه الأكثرية؟ وماذا يقصدُ توماس فريدمان بضرورة الإجماع الأخلاقي، لدرء الأخطار عن الإسلام والمسلمين؟ الأكثرية أو السواد الأعظمُ مصطلحان سنيان قديمان أو أنّ ثانيهما هو الذي كان سائداً. والمقصودُ به الاعتصام بعقائد وأخلاقيات وممارسات الكثرة الساحقة من الناس، وهو ما يُعبّرُ عنه الفقهاء بالإجماع. فريدمان يرى أنه لو أجمع المسلمون (أوعلماؤهم) على استنكار الانتحاريات أو الإرهابيات لتوقفت تلقائياً. وبلير يرى (ولا شكَّ أنّ الذي يكتب كلماتِه هو أحدُ المستشرقين أو العارفين بالإسلام) أنّ أخلاقيات الأكثرية الإسلامية ضدَّ العنف والتشدد. لكن أين هي الأكثرية اليوم، أو هل هناك أكثرية عددية أو أخلاقية في الساحة؟ أهل السنة القُدامى كانوا يرون أنّ "الجماعة" يرتبطُ بها الإسلامُ نفسُه، ولذلك يستحيلُ ان تزول إذ بذلك يزولُ الإسلام! لكنني أرى أنّ الأم