موافقة كوريا الشمالية في التاسع من الشهر الجاري على العودة إلى طاولة المفاوضات السداسية مع كوريا الجنوبية والولايات المتحدة واليابان والصين وروسيا حول برامجها النووية من بعد تشدد، يعزوه المراقبون إلى أمرين: الأول تأكيد واشنطن مؤخرا أنها تنظر إلى كوريا الشمالية كدولة ذات سيادة ولا تفكر أبدا في مهاجمتها عسكريا، والثاني – وهو الأهم في تقديري- إطلاق سيؤول مبادرة حول تزويد بيونغيانغ بالطاقة الكهربائية إن تخلت الأخيرة عن مشاريعها النووية والتي لطالما بررتها بحاجتها الماسة للطاقة. ورغم أن الإفصاح عن المبادرة الكورية الجنوبية جاء بعد ثلاثة أيام من الإعلان الكوري الشمالي، فإنه من المؤكد أنها كانت نتاج عمل دبلوماسي سابق في اتجاهي بيونغيانغ وواشنطن قاده وزير شؤون الوحدة الكوري الجنوبي تشونغ دونغ يونغ. فالأخير زار بيونغيانغ في يونيو الماضي وقابل زعيمها كيم جونغ ايل لعرض المبادرة عليه، ثم انتقل في أوائل الشهر الجاري إلى واشنطن لوضع كبار المسؤولين الأميركيين في الصورة وطلب تأييدهم، وهو ما يبدو أنه نجح فيه بدليل وصف وزيرة الخارجية الأميركية كوندليزا رايس للمبادرة بأنها "فكرة خلاقة جدا", وقولها إنه من السهل إدراج المسألة ضمن أولويات المفاوضات السداسية التي ستستأنف في 25 يوليو الجاري في بكين من بعد انقطاع دام 13 شهرا.
وهذا يختلف قليلا عن موقف واشنطن السابق والذي كان يشدد على ضرورة تخلي بيونيانغ أولاً, عن برامجها وكل أسلحتها النووية المفترضة وضرورة التثبت من ذلك كشرط للبحث في كيفية مساعدتها، الأمر الذي فسره بعض المراقبين بحاجة واشنطن المنهكة من تداعيات الوضع في العراق وأفغانستان إلى التخلص من موضوع الصداع الكوري سريعا.
وفيما يتعلق ببيونغيانغ، فهي لئن استغلت دبلوماسية الكهرباء الكورية الجنوبية للعودة إلى طاولة المفاوضات, فإنها لم تعط حتى الآن ردا قاطعا حول مبادرة جارتها سواء بالقبول أو الرفض، مما يشير إلى احتمال عزمها على طلب ضمانات وفرض شروط واستجداء أشياء أخرى كثمن للموافقة مثلما اعتادت دائما. وفي هذا السياق يمكن توقع إصرارها على أن تقوم جارتها بتزويدها بالطاقة الكهربائية من خلال محطات توليد تبنيها الأخيرة داخل أراضي كوريا الشمالية أو في المنطقة الحدودية منزوعة السلاح، وليس من خلال شبكات إمداد، وذلك كيلا تظل مفاتيح الطاقة في يد سيؤول وحدها فتغلقها في حالة حدوث خلافات.
في تفاصيل العرض الكوري الجنوبي، تقوم سيؤول بتزويد جارتها بمليوني كيلووات من الكهرباء - أي نصف إجمالي حاجة الأخيرة أ وأقل من ثلث فائض الطاقة في كوريا الجنوبية والبالغ حاليا نحو 6.7 مليون كيلووات - من خلال ربط محطات توليد الطاقة في الشمال بمثيلاتها في الجنوب عبر أبراج تقام في المنطقة منزوعة السلاح. وتقدر تكاليف هذا المشروع الذي سيستغرق تنفيذه ثلاثة أعوام بحوالي 2.5 بليون دولار، يمكن أن يرتفع إلى 5 بلايين في حالة الاضطرار إلى تحديث شبكات الكهرباء المهترئة في الشمال. وفي هذه الأثناء وحتى عام 2008 تلتزم سيؤول وحليفاتها بتزويد كوريا الشمالية بحاجتها من النفط والوقود. إلى ذلك فإن العرض يشتمل على استثمار كوري جنوبي في قطاع المناجم في الشمال وتعهد بشراء إنتاجه من المعادن.
ورغم المصاعب الفنية المتوقعة كنتيجة لاختلاف أنظمة الكهرباء في البلدين والفرق الشاسع بينهما من ناحية التقنيات ودرجة التطور، ورغم التكلفة العالية للمشروع والتي ستتحملها سيؤول بمفردها في وقت لا يبدو اقتصادها في أحسن حالاته، فإن قادة الجنوب عازمون على ما يبدو على المضي قدما في الفكرة والدفاع عنها داخليا وخارجيا انطلاقا من مبدأ أن السلام والاستقرار في المنطقة يستحقان أي تضحية ومهما كانت عالية. ففي الداخل واجه زعماء الجنوب معارضة البعض بالقول إن المبادرة استثمار من أجل المستقبل وخطوة تكاملية على طريق وحدة شبه الجزيرة الكورية. كما أنهم ردوا على فرضية تردد بيونغيانغ في قبول المبادرة تحت مخاوف تحكم الجنوب في مفاتيح الطاقة الكهربائية بالقول إن عرضهم سيوثق في حال القبول به في اتفاقية دولية وضمن عملية بناء الثقة والسلام بين الكوريتين. وخارجياً حيث لا تزال المواقف الأميركية والكورية الجنوبية حيال كيفية التعاطي مع النظام الستاليني الشمالي غير منسجمة تماما، وحيث تصر اليابان على عدم التنازل أو الاستجابة لأي مطلب كوري شمالي قبل أن تكشف بيونغيانغ عن مصير مواطنين يابانيين اختطفتهم في الثمانينات بحجة التجسس عليها، راحت سيؤول تدافع عن دبلوماسية الكهرباء قائلة إن مبادرتها بديل عملي لمشروع عام 1994 الموقع بين واشنطن وبيونغيانغ والقاضي بتزويد كوريا الشمالية بمفاعلين نوويين للأغراض السلمية على أن تتحمل كوريا الجنوبية 75 بالمئة من كلفته البالغة 3.5 بليون دولار, وتتحمل اليابان والولايات المتحدة الباقي.
هذا المشروع الذي جمد في عام 2002 بانسحاب واشنطن منه احتجاجا على عدم وفاء بيونغيانغ بالتزاماتها وسعيها سرا لإنتاج الأسلحة ال