لنتخيل للحظة أننا أفقنا في غد قريب على موقف أميركي جديد يعلنه أحد رسميي واشنطن الكبار في الفقرة التالية:
"لقد فشلنا في العراق وآن لنا أن نعلن هذا بصراحة. صحيح اننا بذلنا الغالي والنفيس هناك، لكننا غير مستعدين أن نمضي في تكبّد أعداد أكبر فأكبر من القتلى والجرحى الأميركان من دون أن يتقدم مشروعنا السياسي خطوة واحدة، ومن دون أن يظهر من ثماره ما قد يبرر خسائرنا أو يعوضها. لقد ظننا أن الانتخابات النيابية ونقل السلطة ونشأة طاقم حاكم وسوى ذلك من إجراءات مشابهة كفيلة بتهدئة الأمور، إلا أننا كنا مخطئين نراهن على الاستمرار في الإنكار علّ الوضع يتغير.
وفوق هذا، وفي هذه الغضون، كنا نحن من يدفع الأثمان فيما خصومنا الإيرانيون من يقبض الثمن. وهكذا لم يبق لنا اليوم إلا سحب قواتنا العسكرية في صورة كاملة وإعفاء حلفائنا، بالتالي، من كل التزاماتهم السابقة حيالنا. فهم يستطيعون أيضاً أن ينسحبوا إذا شاؤوا وليتدبر العراقيون أمرهم بأنفسهم. أما في لبنان، فقد ظننا أن "ثورة الأرز" ومظاهرة 14 مارس الماضي ستكونان انطلاقة للاستقلال اللبناني الجديد وبداية لوضع مختلف كلياً يتولى فيه اللبنانيون شؤونهم ويباشرون بناء كيان حديث وعصري. إلا أن الطائفية المستشرية عند الجميع وتفاهة الطبقة السياسية في لبنان حالا ويحولان دون هذه الآمال كلها. فهناك أيضاً يتبدى لنا ان ما كنا نتوقعه ونأمله إنما هو مضخم ومبالغ فيه. وهكذا، وبما أنه استحال العثور على مرتكزات قوية ومستقرة لمصالحنا ولقيمنا في العراق كما في لبنان، وما دام ان الكلف الإنسانية في بغداد والسياسية في بيروت تفوق كل عائد محتمل، نجد أنفسنا أمام ضرورة المراجعة لموقفنا. فنحن نستطيع من الآن فصاعداً أن نحمي مصالحنا من خلال قواعدنا العسكرية في المنطقة، كما من خلال تواجدنا في بحارها. ونستطيع كذلك التعاون لهذا الغرض مع بعض أصدقائنا الأوفياء كإسرائيل. ونجد، من ناحية أخرى، الضرورة ماسة لمراجعة موقفنا من سوريا بعدما لجأنا الى تخفيف حدة الضغط على النظام المصري لتنفيذ الإصلاحات التي طالبنا بها. ذاك ان النظام السوري، على رغم خلافاتنا كلها معه، قادر على مكافحة الإرهاب وضبطه كما ثبت غير مرة من قبل. وبقليل من التغيير في سلوكه، ومن التغيير في الرجالات الذين يقفون على رأس بعض أجهزته ممن لا يحظون بثقتنا، يمكننا أن نتفاهم معه من جديد مثلما تفاهمنا في مراحل سابقة حول لبنان وغير لبنان. فكيف وان انهيار الوضع السوري يخلق لنا مستنقعاً آخر غير قابل للسيطرة عليه، يمكن للإرهاب أن ينمو فيه ويستفيد منه وصولاً الى الانتشار الى بقاع جديدة. وما يزيد في قتامة الصورة ان المعارضة الداخلية العلمانية في سوريا أضعف بكثير من أن توفر البديل الذي يقود البلاد نحو مستقبل مستقر تتعاون فيه مع الولايات المتحدة، بينما المعارضة الوحيدة القوية هي حركة الاخوان المسلمين. أما معارضة الخارج التي عطفنا عليها من قبل، وأقمنا لها أسباب الوجود، فلا تقل هزالاً عن هزال المعارضة التي رعاها سابقاً السيد أحمد الجلبي، وقد انقدنا الى تأييدها ودعمها في مواجهة نظام صدام حسين، وكان ما كان من كوارث معروفة".
لنفترض أن الولايات المتحدة الأميركية فاجأتنا في غد قريب بموقف كهذا، وتفسيرات كتلك، فما سيكون العمل، وما ستكون النتائج والمعاني والتوقعات؟
بطبيعة الحال، يندرج الافتراض هذا في الخانة التي تُعرف بالسيناريوهات الخرافية الواقعية: فهو خرافي بمعنى أنه لن يحدث، وان البناء عليه تكهني بحت بالتالي. وهو واقعي بمعنى أنه ليس مستحيل الحدوث من حيث المبدأ، ولو كان مستبعداً إجمالاً. غير أن الافتراض ذاك، وكائناً ما كان الأمر، كفيل بالإضاءة على أحوالنا وإمكاناتنا، أقله في منطقة المشرق العربي، لأنه غير مفصول عن الواقع وعما قد يحبل به الواقع.
والحق يقال إننا حيال افتراض كهذا ينتابنا ذعران. واحد أصغر وثانٍ أكبر. ولو كانا، في آخر المطاف، مترابطين يقود أحدهما الى الآخر. أما الذعر الأصغر فمصدره هشاشة أوضاعنا المشرقية جميعاً، بحيث يمكن بسهولة التراجع عن إنجازات جدية وضخمة من عيار التخلص من نظام البعث الاستبدادي في العراق، أو طي مفاعيل "ثورة الأرز" والرعاية الدولية في لبنان إثر جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. كما يمكن، من حيث المبدأ، إعادة تأهيل نظام عسكري كالنظام السوري سبق أن ساد الظن أنه يتداعى ويتصدع. وهذا ليس عائداً الى أن الدور الخارجي، الأميركي والأميركي - الفرنسي، كان صاحب إسهام كبير في معظم التحولات، فجاء إسهامه مباشراً وعسكرياً في العراق، وسياسياً وغير مباشر في لبنان. بل الأمر عائد الى أن تراكيبنا الداخلية, في لبنان كما في العراق، تبدو أشد ضعفاً وتهافتاً من أن تسند ذاك الدور الخارجي. وهذا، بالضبط، مصدر الذعر الأكبر.
وقد يكون النظر الى أنفسنا والى تاريخنا الحديث في المرآة سبباً للألم والمرارة، بيد أن هذا ينبغي ألا يمنع النظر: فنحن، لشديد الأسف، لم ننتج إلا القليل والنادر من المع