يعد هذا الكتاب للمؤلفة مايا بلوم, من أهم ما نشر مؤخراً من أدبيات دراسة التطرف الديني والآيديولوجية الأصولية, سيما بين ما كتب عن مدى النجاح والإخفاق الذي حققته العمليات الانتحارية في كل من آسيا والشرق الأوسط وأوروبا, فضلاً عن دراسة الاستراتيجيات والتكتيكات التي تتبعها هذه الآيديولوجية, إلى جانب دراسة استجابة وردود أفعال الحكومات والدول, إزاء هذا النوع من العمليات الانتحارية.
ووفقاً لرأي المؤلفة, فإنه لا في العراق وأنحاء أخرى من منطقة الشرق الأوسط, ولا في جمهورية الشيشان الروسية, كانت ردود أفعال الحكومات والدول, وكذلك استراتيجياتها, من الكفاءة والقدرة على ردع الإرهاب, ووضع حد للعمليات الانتحارية التي تشنها وتنفذها القنابل البشرية. ليس أدل على ذلك من الفشل الذريع الذي منيت به الولايات المتحدة الأميركية في مواجهة العمليات الانتحارية اليومية, التي تزعزع أركان العراق. كما أعطت المؤلفة اهتماماً خاصاً لاستراتيجية وتكتيكات الجماعات الإرهابية وأساليب عملها, وكيف تتبادل خبراتها ومعارفها, فضلاً عن دراسة حركة الأموال الموجهة إلى هذا النشاط. والعنصر الأهم في هذه الدراسة, هو النظر إلى الدور الذي تلعبه العمليات الانتحارية, في مجتمعات شديدة التباين والتكوينات الديموغرافية العرقية, والانتماءات الدينية والثقافية, لمنفذي العمليات الانتحارية, ولضحاياها على حد سواء.
على أن الجانب الأكثر أهمية في هذه الدراسة, هو تناول المؤلفة للجذور التاريخية للعمليات الانتحارية والدوافع المعاصرة لها, في العالمين الغربي والشرقي معاً. وقد كرست لهذا القسم من الدراسة, ثمانية فصول بكاملها, غطت تاريخ العمليات هذه, منذ أيام طائفة "الزيلوت" اليهودية المتعصبة, التي عرفت بمقاومتها الضارية للسيطرة الرومانية على فلسطين, خلال القرن الأول الميلادي, وصولاً إلى عمليات "كاميكازي" الانتحارية التي نفذها الطيارون التابعون لسلاح الجو الياباني, خلال الحرب العالمية الثانية.
ومن رأي المؤلفة أن الحالة الوحيدة التي يمكن أن تحقق فيها العمليات الانتحارية نجاحاً وقبولاً أخلاقياً من قبل المجتمع, هي حين تكون الغالبية الغالبة من أفراد ذلك المجتمع, في حالة تستشعر فيها أهمية هذا النوع من أنواع المقاومة لخطر قومي لا يمكن مواجهته إلا بسلاح فتاك كهذا. ولهذا السبب, فإن من رأي مايا بلوم أن تفجيرات "أوماف" التي نفذها الجيش الجمهوري الإيرلندي في عام 1998, جاءت كارثة ووبالاً عليه. والشيء نفسه يصدق على العمليات والتفجيرات الجارية الآن في العراق, لكونها تعبر عن منحى مناوئ لرغبة غالبية الرأي العام العراقي, التي تنشد التغيير السياسي والاستقرار الأمني, والتي أصبحت نفسها ضحية لعشرات التفجيرات والعمليات الانتحارية التي تشهدها معظم المدن العراقية يومياً.
جانب آخر تكشف عنه الدراسة, هو أن تجارب التاريخ الممتدة في مكافحة الإرهاب, من أيام مقاومة زيلوت اليهودية المبكرة في القرن الأول الميلادي, مروراً بتجربة مقاومة المقاتلين الشيشان في روسيا ما بعد العهد السوفيتي, وصولاً إلى فلسطين والعراق, تثبت وتؤكد جميعها, أن تكتيكات العنف المضادة لذلك العنف, إنما تصب الزيت على النار, وتصبح هي نفسها طرفاً في الأزمة ودورتها المتكررة. ذلك أن العنف لا يولد إلا المزيد من العنف المضاد له. في إطار هذه الرؤية, وبحكم كونها أستاذة جامعية مختصة بتدريس مادة العلوم السياسية بجامعة سينساناتي, ترى المؤلفة أن عدوى العنف قابلة للانتقال بين الأطراف المتصارعة والمتناحرة في نطاقها.
وقياساً إلى كافة تجارب مقاومة العنف والعمليات الانتحارية بعنف مضاد, ترى المؤلفة في تجربة تصدي تركيا لأعمال العنف التي ينفذها حزب العمال الكردستاني, مثالاً لإمكان النجاح الجزئي لتكتيكات واستراتيجيات مقاومة العنف. كما أفرد الكتاب فصلاً كاملاً من فصوله للعمليات الانتحارية التي تنفذها النساء في كل من الشيشان وسيرلانكا, إلى جانب تحليل مدلولاتها على صعيد العمل العسكري, وعلى صعيد مدلولاتها الاجتماعية, ووضع النساء المقاتلات داخل مجتمعاتهن التقليدية المحافظة في معظمها. ووجه المفارقة أن نساء هذه المجتمعات يحرمن من ممارسة معظم حقوقهن الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية, بل وتصادر حتى حرياتهن الشخصية, في حين يسمح لهن بالقتال وتفجير أنفسهن فيما يشبه القنابل البشرية!
يذكر أن هذا الكتاب قد صدر قبل شهر ونصف على الأقل, من العمليات الانتحارية التي شهدتها العاصمة البريطانية لندن, في السابع من شهر يوليو الجاري. غير أن الفصل الأخير منه, تنبأ باحتمال تعرض عدد من العواصم والدول الغربية, لهذا النوع من الهجمات الإرهابية, بما في تلك الدول الولايات المتحدة الأميركية. ومما قالته المؤلفة في هذا المنحى, إن أداة هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001, كانت هي الطائرات وليست القنابل البشرية, إلا أن المرجح أن تكون الوسيلة الأخيرة, الأداة الرئيسية لتكرار الهجوم الإرهابي على أميركا