في خطاب كان ألقاه جوزيف ستالين أمام الروس سنة 1931 أكد على ضرورة أن تصبح روسيا قوية. وهي لن تصبح في نظره كذلك إلا إذا سلكت درب التصنيع الثقيل لتصير قوة يحسب لها ألف حساب، ولتتفادى تكرار تاريخها المظلم. وفي ذلك الخطاب نفسه الذي ألهب حماس الجماهير واصل ستالين العزف على وتر القومية الروسية بعد أن عدد الغزاة الذين تعاقبوا على روسيا وهزموها في معارك عدة ابتداء من المغول والأتراك ومروراً بالأسياد القادمين من السويد وانتهاء باليابانيين. وهو إذ يستدعي ذلك التاريخ، فإنه يشحذ الهمم ويحث الشعب على الثورة على مظاهر التخلف والنهوض بروسيا قوية ومهابة من قبل الجميع. والمفارقة العجيبة أنه بالرغم من مرور كل تلك السنين على هذا الخطاب، فإن أصداءه مازالت تتردد في خطابات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي لا يخفي عزمه على استرداد قوة ومكانة روسيا على الساحة العالمية.
والأكثر من ذلك أنه يتوق إلى حقبة الاتحاد السوفيتي عندما كانت روسيا تسيطر على رقعة جغرافية واسعة تضم تحت جناحيها دولا وشعوبا متنوعة. وقد لاحظ مؤلفا الكتاب، اللذان مكثا مدة طويلة في روسيا كمراسلين مقيمين لصحيفة "واشنطن بوست" الأميركية في موسكو، أن بوتين يحن إلى السلطة بمفهومها القديم, بما تعني من سيطرة تامة وتركيز الصلاحيات في شخص الرئيس تماماً كما كان يفعل المقيمون في الكرملين قبل انهيارالاتحاد السوفيتي. والهدف من وراء ذلك هو خلق وحدة وطنية تعينه على تحقيق النمو الاقتصادي المنشود وبناء دولة قوية تعيد إنتاج صورة روسيا القوية في العالم.
ويقوم المؤلفان طيلة صفحات كتابهما بتقديم عرض شامل عن الحياة السياسية والاجتماعية في روسيا ملقيين الضوء على المكائد التي يحيكها الساسة في الأروقة المعتمة للكرملين من أجل تركيز السلطة بين أيديهم. وتبدو الصورة التي يرسمانها قاتمة إلى أبعد الحدود. فهي لا تقتصر على عدم كفاءة الحكومة وكذبها على الشعب، بل تمتد إلى المشاكل الاجتماعية والاقتصادية المتعاظمة, كالانتشار الكبير لمرض الإيدز، والإدمان على الكحول، بالإضافة إلى التدهور البيئي الخطير. وفي قلب ذلك كله يأتي ما يطلق عليه "مشروع بوتين" والمتمثل في الحملة الهوجاء التي يشنها الرئيس لإزالة كافة التحديات والعقبات التي تعوق سيطرته على السلطة المطلقة. وهو في سبيل الوصول إلى غرضه لم يتوانَ عن منع شبكات التلفزيون المستقلة التي كانت تعارض بعض السياسات المركزية وتخلق نوعا من الحركية المجتمعية المشجعة على الديمقراطية. كما قام مؤخرا بإيقاف الانتخابات المحلية التي تسعى لاختيار حكام المحافظات الجدد، بل سن أسلوبا جديدا تجسد في اختياره لحكام المحافظات دون الاحتكام إلى إرادة الشعب الذي اعتقد بأن مثل تلك الممارسات عفا عليها الدهر وأصبحت جزءا من ماض بعيد. بالإضافة إلى ذلك عمد بوتين إلى سجن ميخائيل خدوركوفسكي صاحب شركة يوكس النفطية التي قام بمحوها من الوجود نهائيا.
وللتعرف على ذلك الهوس الذي أصاب بوتين في علاقته بالسلطة وجعله لا يدخر وسعا في سبيلها, يدعونا المؤلفان إلى النظر في سلوكه قبل الانتخابات الرئاسية. فبعدما تأكد من عدم وجود أية معارضة حقيقية له تمنعه من الوصول إلى كرسي الرئاسة، ظل هاجسه الوحيد نسبة المشاركة. ونظرا لتخوفه من أن يصبح رئيس الوزراء حينها ميخائيل كاسينوف قائما بأعمال الرئاسة في المرحلة الانتقالية وهو الرجل القوي الذي يمكن أن يضايق بوتين، قام هذا الأخير بإقالته وأعطى المنصب الانتقالي إلى ميخائيل فرادوف أحد المقربين الذي لا يشكل أي خطر على خططه. ويشير المؤلفان إلى المفارقة التي تطبع خطاب بوتين. فهو من جهة يتحسر على انفراط عقد الاتحاد السوفيتي الذي كانت روسيا إبانه تتمتع بنفوذ قوي على المستوى العالمي، ونجده من جهة أخرى ينسى أنه لولا تلك الأحداث التاريخية التي شهدت انهيار الشيوعية لما صعد إلى السلطة بتلك السرعة. لكن الأحداث التي أعقبت الانهيار كانت حاسمة في صعود نجمه حيث استغل جيدا شبكة العلاقات التي كان يتمتع بها من قبل ليرتقي السلم السياسي ويصبح في 1998 رئيسا للوزراء ثم الخليفة المفضل للرئيس بوريس يلتسين في 2000.
وخلال الفترة التي قضاها يلتسين في الرئاسة شهدت الأوضاع الروسية تدهورا حاداً على الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية، حيث تكشف للعالم ضعف روسيا، خصوصا مع تفاقم المشاكل وعجز الحكومة عن مواجهتها. وقد رأينا كيف كان الروس في موسكو وباقي المدن يقفون في صفوف طويلة أمام المحال لشراء رغيف الخبز الذي أصبح حينها وكأنه عملة نادرة. وبالرغم من تدخل القوى الغربية متمثلة في أوروبا والولايات المتحدة للحيلولة دون انفلات الأمور والانزلاق إلى الفوضى حيث قامت بدعم بناء الديمقراطية وإرسائها في النسيج السياسي الروسي، إلا أن تلك الجهود لم تثمر نتائج جيدة، لا سيما مع ما يقوم به الآن بوتن من ثورة مضادة ترمي إلى الانقلاب على المكتسبات الديمقراطية التي تحققت في البلاد وسعيه إلى استرداد مجد روسيا الضائع. وقد ت