عندما كنت أحاضر قبل عدة سنوات في إحدى الجامعات حول موضوع "الرسائل الإعلانية والمجتمع" خرج بنا النقاش قليلا وأعلن أحد الطلبة بثقة أن مواقع شركات الطيران على الإنترنت تقدم أسعارا أرخص لمن يشتري تذاكر لأول مرة, في حين تقوم برفعها بالنسبة للزبائن الذين ارتادوا الموقع أكثر من مرة. وقد لاقت مقولة الطالب موافقة فورية من قبل كافة الطلبة، حيث أكدوا أن ما يدفع شركات الطيران لخفض أسعارها على الإنترنت هو محاولاتها جذب زبائن محتملين. لكن ما إن يعودوا مرة ثانية حتى ترفع الشركات سعرها.
وقد بدأت أسمع كثيرا في الآونة الأخيرة من مستعملي الإنترنت عن تلك الأساليب التي يلجأ إليها المعلنون لاقتناص مزيد من الزبائن. وهم من أجل ذلك لا يوفرون أية طريقة, بدأً من تكييف الإعلانات حسب الأشخاص وانتهاء بالتلاعب بأسعار السلع أو الخدمات المقدمة معتمدين على المعلومات التي قاموا بجمعها عن مستخدمي الإنترنت دون علمهم. وقد تأكدت لي تلك الأساليب التي تنتهجها الشركات بشكل واضح من خلال الأبحاث التي أجريتها في مجال التسويق الإلكتروني، حيث تحدثت إلى العديد من الخبراء واطلعت على الكثير من الإعلام التجاري. وبالرغم من توافر العديد من الدلائل التي تثبت انتشار ظاهرة التلاعب بأسعار الخدمات المعروضة على الإنترنت، إلا أنه من الصعب تحديد متى يتم اللجوء إليها أو لماذا تقدم عروض خاصة لبعض الأشخاص دون سواهم، ثم ما هي المعايير التي يعتمد عليها البائع في تقييم الزبون؟ وبما أن الشركات التي تستخدم الانترنت للترويج لمنتجاتها غالبا ما لا تكشف عن طريقة عملها، فإن كل تلك الأسئلة تبقى طي الكتمان. وقد أخبرني في هذا الصدد "روب ميير" الأستاذ بجامعة "يوتاه" ومستشار اتحاد المستهلكين لمراقبة الإنترنت أنه سأل في إحدى المرات مسؤولا في شركة لخدمات السفر على الإنترنت عما إذا كانت الشركات تمنح بعض الزبائن أسعارا تختلف عما تمنحه لزبائن آخرين، وعما إذا كانت تلك الشركات تعتمد في ذلك على التاريخ الاستهلاكي للزبون فكان رد المسؤول غامضا لكنه صرح: "لن أقول بأن ذلك لا يحدث".
وقد يقول أحدهم بأني أبالغ في الأمر، ففي كل الأحول لا أحد يرغم الناس على شراء التذاكر عن طريق الإنترنت. لكني أجدني منزعجا حيال ما تعكسه تلك الأساليب على عملية البيع بالتجزئة, حيث يبدو وكأن مناخا من عدم الثقة بدأ يخيم على العلاقة بين البائع والزبون، فضلا عن بروز ثقافة الشك في معاملاتنا التجارية. وفي هذا الإطار بدأ عدد متزايد من الأميركيين يعتقدون بأنه يتم التجسس عليهم والتلاعب بهم، وتتسع دائرة الاتهام لتتراوح بين شركات الطيران والأسواق الممتازة إلى البنوك ومواقع الانترنت. وأمام شعورهم بالعجز أمام ألاعيب الشركات فإنهم لا يملكون سوى الاستمرار في معاملاتهم التجارية اليومية.
وبرجوعنا إلى التاريخ, فإننا سنلاحظ أن الولايات المتحدة قد شهدت طيلة القرن ونصف القرن الماضيين ما يمكن أن يطلق عليه بديمقراطية التسوق. فقد انتقلت المحال التجارية كـ"ستيوارتس" في نيويورك و"وانميكر" في فيلادلفيا من طريقة المساومة في البيع وعدم تحديد السعر, إلى طريقة أخرى تعتمد على عرض السلع أمام الجمهور وتوحيد الأسعار. ويعزى هذا التحول إلى الفائدة التي يجنيها أصحاب المحال الذين لم يعودوا يثقون بموظفيهم في مساومة الزبائن والبيع بأسعار جيدة. وقد أدى ذلك التحول نحو توحيد الأسعار إلى ظهور نوع من الشفافية والمساواة في السوق حيث أصبحت نفس الأسعار تنطبق على الجميع دون تمييز وهو ما جعل الأميركيين يأخذون تلك الممارسة الناشئة في السوق على أنها مسلمات وقواعد ثابتة في المعاملات التجارية. ويذكر أن الممارسات العادلة في السوق هي أهم ما يميز الرأسمالية الأميركية، أو على الأقل هذا ما نرغب أن تكون عليه الأمور. وبالرغم من التجاوزات التي تطال القواعد العادلة المتصلة بالممارسات التجارية، إلا أنه يبقى مع ذلك هدفا نبيلا يستحق المحافظة عليه.
بيد أن تلك الدعائم الراسخة التي يقوم عليها النظام التجاري العادل سوف تنهار إذا ما استمر الباعة في تقديم عروضهم إلى أشخاص منفردين بناء على معلومات تم جمعها عنهم دون أن يكونوا قد أخبروا بذلك. وكمثال على تلك الممارسات غير العادلة قام مراقبون من اتحاد المستهلكين بمراقبة أسعار شركات الطيران المعروضة على الإنترنت فوجدوا تباينا صارخا في الأسعار على نحو عشوائي ولا يستند إلى معايير معقولة. وبالرغم من أن شركات الطيران تعلن أنها تعتمد على معايير معقدة في التسعير، إلا أنه لا توجد أية وسيلة تؤكد صحة هذا الادعاء. وهو نفس ما لوحظ على موقع "أمازون" المختص ببيع الكتب والأقراص المدمجة حيث تعرض الموقع في سبتمبر 2000 إلى حملة إعلامية اتهمه فيها بعض الأشخاص بالقيام ببيع نفس المنتج بأسعار مختلفة حسب الشخص. حيث حصل بعض الأفراد على خصم يتراوح من 30% إلى 40% فيما اشتكى أشخاص آخرون بعدم الاستفادة من ذلك الخصم. أما المسؤولون عن الموقع فقد قالوا إن التسعير الذي اعتمدوا علي