يأتي الاتجاه القائم منذ مدة, نحو إنشاء تكامل نقدي بين بلدان مجلس التعاون لدول الخليج العربية، متوافقا مع الاتجاهات العالمية إلى إقامة تكتلات وأنظمة نقدية إقليمية موحدة، وبخاصة بعد انهيار نظام "بريتون وودز" في مطلع السبعينيات من القرن الماضي. فقبل ذلك الوقت كانت دول الخليج العربية تاريخيا تمثل منطقة اقتصادية ونقدية موحدة، في مرحلة الحماية البريطانية، لكن علاقاتها الاقتصادية والنقدية البينية تقلصت تدريجيا بعد أن نالت استقلالها السياسي في الستينيات والسبعينيات من نفس القرن، ثم كان إرساء التكامل الاقتصادي مجددا أحد الأهداف التي سعت تلك الدول إلى تحقيقها عبر إقامة منظومة مجلس التعاون لدول الخليج العربية، حيث أنشأت فيما بينها منطقة تجارة حرة واتحادا جمركيا، لكنها لم تنجز إلى الآن مشروع الوحدة النقدية وإصدار العملة الخليجية الموحدة!
من هنا تأتي أهمية كتاب "إمكانات التكامل النقدي بين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية"، لمؤلفه هيل عجمي جميل، والذي يبحث في معوقات ذلك التكامل وفي الصيغ المناسبة للوصول إليه. ففي فصله الأول يناقش أبرز الاتجاهات في نظرية التكامل النقدي، ليوضح أنها في معناها العام تشير إلى خلق وحدة نقدية بين دول معينة من خلال "تداول عملة مشتركة، وإنشاء سلطة نقدية مالية موحدة، وإنجاز درجة عالية من حركة عوامل الإنتاج والسلع، بما فيها حركة العمل ورأس المال..."، وذلك بهدف "توثيق الترابط العضوي" بين تلك الدول. ويميز المؤلف بين نوعين من التكامل النقدي؛ أولهما التكامل النقدي الكلي أو الكامل، ويعني خلق عملة مشتركة واحدة، وإقامة سلطة لإدارة الاحتياطات الأجنبية المشتركة، واتباع سياسة صرف مشتركة تجاه العالم الخارجي. وثانيها التكامل النقدي الجزئي، ويقوم على التدرج عبر مراحل انتقالية عديدة للوصول إلى التكامل النقدي الكامل.
وفي الفصل الثاني من الكتاب يبين المؤلف أن هذه الدول تمثل مجموعة متجانسة في نظمها السياسية والاقتصادية والنقدية وأوضاعها الاجتماعية، ومن ثم فهي أقدر على تحقيق الوحدة النقدية فيما بينها من أي مجموعة عربية أخرى. فاقتصادياتها جميعا تتسم بانفتاح واسع على العالم الخارجي، كما تعتمد في صادراتها على النفط الخام بنسبة تصل في المتوسط إلى 62%. لذلك تتصف العلاقات التجارية بين دول المجلس نفسها بالضعف، إذ لم تتجاوز وارداتها البينية نسبة 7.5% من وارداتها الكلية في عام 2001! فدول "التعاون" تنتج سلعة تجارية ذات مواصفات موحدة، هي النفط، وتستورد سلعا متشابهة ومن المنافذ نفسها التي يتم تصدير النفط إليها، مما يجعلها عرضة لضغوط اقتصادية خارجية متشابهة، وذلك "يسهل عملية توحيد هذه المنطقة تجاه العالم الخارجي".
ويتطرق الكتاب إلى السياسات المالية والنقدية في دول مجلس "التعاون"، ويلاحظ أنها تتسم بضعف أدواتها النقدية الكمية، نتيجة استنادها أساسا إلى هيكل نقدي ومالي غير مكتمل يتصف بضيق الأسواق المالية وضعف تطورها. فقد استخدمت البنوك المركزية في دول مجلس التعاون أدوات نقدية كمية مختلفة لتنظيم السيولة المحلية وللتأثير في حركة رؤوس الأموال، ثم عمدت ابتداء من عام 2001 إلى الاعتماد على الأدوات غير المباشرة، بما في ذلك استخدام سعر إعادة الخصم واتفاقيات إعادة شراء الأوراق المالية وشهادات الإيداع. وفيما يخص الأدوات النوعية، اعتمدت السلطات النقدية الخليجية منذ أواسط التسعينيات أسلوب الإدارة غير المباشرة لتحقيق أهدافها متمثلة في استقرار أسعار الصرف، وبناء احتياطيات ملائمة، وتنظيم مستوى السيولة المحلية، وزيادة كفاءة السياسة المالية ذاتها.
ويتعرض الكتاب في الفصل الثالث إلى أنظمة الصرف في دول مجلس "التعاون"، فيوضح أنه في هذه الدول هناك حرية في جميع التعاملات بالعملات الأجنبية، وأن الهدف الأساسي لسياسة الصرف الأجنبي في دول المجلس يكمن في تحقيق أعلى درجة من استقرار أسعار الصرف بين عملاتها وعملات شركائها التجاريين الرئيسيين. وقد تحولت أغلب دول المجلس في عام 1973 من الارتباط بعملات متعددة إلى الحفاظ على علاقة مستقرة بالدولار الأميركي، ثم لجأت خمس منها، ابتداء من عام 1975، إلى فك الارتباط بالدولار وتثبيت عملاتها بوحدات حقوق السحب الخاصة، بينما لجأت دولة الكويت إلى ربط عملتها بسلة من العملات الأجنبية الرئيسية، ثم قامت تلك الدول مرة أخرى بإعادة ربط عملاتها- عدا الدينار الكويتي- بالدولار الأميركي في عام 1980 نتيجة لزيادة قيمته في سوق الصرف الأجنبي. ويلاحظ المؤلف أنه بفضل ذلك الربط تمكنت دول "التعاون" الخليجي من تفادي أزمات مالية وتثبيت أسعار عملاتها. ثم كان تثبيت أسعار الصرف بين العملات الخليجية واعتماد الدولار كمثبت مشترك منذ نهاية عام 2002، أولى خطوات البرنامج الذي أقرته قمة مجلس التعاون الخليجي في مسقط (ديسمبر 2001)، لإقامة الاتحاد النقدي واطلاق العملة الخليجية الموحدة في عام 2010.
ويناقش الفصل الرابع والأخير من الكتاب، عددا من المسائل المت