في خطابه حول أحداث تفجيرات لندن أعاد "بلير" الحديث عن ضرورة محاربة الأفكار التي تنبت التطرف والإرهاب بدل التركيز على محاربة الأشخاص الذين يمارسون أفعال الإجرام تحت مسميات الجهاد والحروب الصليبية والمؤامرات العالمية على الإسلام وأهله.
في السنوات القليلة الماضية كانت الخطب تؤكد على سياسة تجفيف المنابع المادية، فقامت حملة مكثفة ولازالت لمراقبة ومتابعة أي تحويلة تشم من خلالها رائحة غير زكية لتمويل الإرهاب والتطرف. بل أكثر من ذلك فإن الحرب الفعلية وعلى شتى الميادين التي يمارس فيها الإرهاب, لم تؤد إلى تجفيف منابع الفكر التي تغذي التوجه الى الإرهاب, في أي مكان وأينما ولد وترعرع. ولا علاقة لذلك بالجغرافيا ولا تحده الاتجاهات عن إيصال الأذى إلى العالم أجمع من دون تفرقة. فما يحدث في العراق باسم المقاومة خير شاهد على ذلك, وما حصل في الجنوب السوداني باسم الجهاد والسلام اللاحق مع قرنق أقوى دليل على ما نذهب إليه.
يبدو أن الفكر الغربي تأخر كثيرا في الوصول إلى نتيجة مفادها أن حرب الأفكار بالأفكار المضادة هو خير وسيلة لوقف النزيف الذي يسببه الفكر المتطرف المرعب للصديق قبل العدو. ترى كيف تستطيع الدول الغربية شن هذه الحرب ضد الأفكار التي تحمل جذور وبذور الإرهاب الذي لا يفرق بين الصالح والطالح على كل المستويات؟, فالهدف لم يعد واضحا لدى متبني تلك الأفكار الخارجة عن منطق الحياة السوية لمعيشة البشر، بل الأكثر من ذلك إنها فشلت في وضع البديل المناسب لإعادة ما يظن أصحابه أنه انحراف إلى وضعه الطبيعي, لأن كل ما حولهم ظلمات بعضها فوق بعض, وكلما أخرجوا السلاح لمحو تلك الأفكار المدمرة، لا يحصلون على نتائج لأن العمى أصاب بصائرهم قبل أبصارهم.
إن هذه الحرب الفكرية ينبغي أن تدار خارج نطاق الحديث عن حرب عالمية ثالثة ضد الإرهاب، لأن الفكر المتطرف غامض أصلا في عقول أصحابه، وليس أدل على ذلك من عودة بعض مكفري المجتمع إلى صوابهم والإعلان عن ضلالهم بعد إجراء عمليات غسيل مخ متواصلة معهم, وحوارات تمخضت عنها خطة للعودة لحياة طبيعية بعد ممارسة الإرهاب الفكري لعقود من الزمن أدت إلى خنق فكر الأبرياء, واتهامهم جزافا بما لا علاقة لهم به.
هذه الحرب الفكرية بأمس الحاجة إلى كوادر بشرية بعيدة عن أروقة المخابرات التي تمارس أدوارا لا علاقة لها بصناعة الأفكار المتحررة من قيود التطرف والإرهاب. كوادر تبني حياة أكثر أمنا وسلاما للمجتمعات البشرية كافة. كوادر تبحث عن طرق واضحة وبعيدة عن الظلامية والغموض في الطرح وتبث موجات قصيرة للثقة فيما يمكن الأخذ به من أفكار تناسب الممارسة المدنية السليمة.
ان دول العالم المصابة والمستهدفة بطوفان الإرهاب الفكري والحرب المضادة عليه وعلى مموليه ليست بهذه السهولة التي تلقى في الخطب السياسية. فخيوط حرب الأفكار طويلة ومتشابكة في آن واحد. فهي لا تنمو أصلا في البيئات السوية، ولا تخرج إلى السطح إلا بعد سنوات من الغليان النفسي من تحت الأقبية. ولا تخرج إلى العلن إلا بعد استكمال كافة أركانه المدمرة لكل من يحاول التقرب منها أو إليها. إننا أمام حرب جديدة وبحاجة ماسة إلى التنسيق مع كافة الأطراف والجهات التي تجد نفسها مستهدفة أو ضحية هذه الحرب الفكرية التي لا تقبل بالآخر مهما أثبت حسن نواياه.