"لا تلقلقْ يحبسوكْ، لا تقول انهزم كوكْ". هكذا يستهل الملا عبود الكرخي، أشهر شعراء اللغة العامية بالعراق في القرن الماضي قصيدته "آثارنه المهرّبة". "لقلقه" تعني إحداث جَلَبة، و"كوك" مُهرّب آثار عمل مستشاراً لوزارة الأوقاف خلال الاحتلال البريطاني للعراق في العشرينات. وكما هو الحال اليوم كان هناك وزير عراقي يقول عنه الكرخي "شيخنا حر الضميرْ/كان للمستر نصيرْ/ وعامَله بحسن السلوكْ". ويهدد الكرخي بالكشف عن فضائح أخرى لا تمثل معها فضيحة تهريب "كوك" للآثار سوى "ذرّه/وأهون بمرّات شرّه/تريدني أكسر الجرّه/ ويلعنون أمّك وأبوك؟".
إعلان "الصندوق الدولي للآثار" في الشهر الماضي دولة العراق بالكامل موقعاً أثرياً عالمياً مهدداً بالخطر متأخر بنحو قرن عن الكرخي، ومتأخر قرنين تقريباً عن أكبر حملة لنهب مهد الحضارة البشرية في العراق. المسروقات تحتل صالات في "المتحف البريطاني" في لندن، و"المتروبوليتان" في نيويورك، و"اللوفر" في باريس، وغيرها من المتاحف العالمية الكبرى. والاعتقاد الأحمق بأن سرقة هذه الكنوز كان إنقاذاً لها أتعس من هلوسة بناء الديمقراطية بمساعدة الغزاة المحتلين. تصورات بائسة استحوذت على أذهان "مثقفين" عراقيين وعرب يجهلون تاريخ نهب كنوز بلدانهم، مع أن المعلومات بهذا الصدد متوفرة حتى في كراريس المتاحف المذكورة أعلاه.
كرّاس متحف "متروبوليتان" ورقمه في دليل الكتب ISBN 0-87099-260-0 يتحدث بامتنان عن السير هنري لايارد، "الذي تشهد جدران المتاحف في بلدان عدة من العالم على نجاحه في إزالة المنحوتات الجدارية ونقلها إلى الهند أولاً ثم إلى أوروبا". وهنري لايارد لص آثار ارتبط اسمه بالتنقيب في نينوى شمال العراق، حيث أطلال نمرود عاصمة الإمبراطورية الآشورية، وأصبح نجماً من نجوم المجتمع الإنجليزي في القرن التاسع عشر، ومُنح لقب الفروسية "سير"، وعُيّن في السلك الدبلوماسي، واختير عضواً في البرلمان البريطاني. قال عنه أحد معاصريه "إذا كنت أغتفر لهنري عثوره على نينوى، فلن أغفر لنينوى عثورها على هنري". وهل تغفر نينوى للص كان يزيل بالديناميت المنحوتات الجدارية من قصورها الإمبراطورية، وذلك اختصاراً للوقت والمال؟ كان يقطّع الجداريات المهيبة وينقلها بمحفات على ظهور الثيران إلى ضفاف نهر دجلة، حيث تُحمل على جلود حيوانات منفوخة طافية فوق الماء إلى الخليج، ومن هناك على متن السفن إلى الهند. كم من كنوز "مهد الحضارة البشرية" غرقت أثناء نقلها في شط العرب والخليج والمحيط الهندي؟
التحالف الأنجلوأميركي على نهب العراق كان قائماً منذ ذلك الوقت. جاء ذكر ذلك في مقالة في كرّاس "متربوليتان" لدوروثي فرانك حفيدة الكاهن وليامز، عضو البعثة التبشيرية إلى العراق عام 1853، وشقيقة تالكوت وليامز، سفير أميركا في سوريا في ثمانينات القرن الماضي. تروي دوروثي بـ"براءة أميركية" كيف كان جدها يستخدم المنشار في تقطيع منحوتات جدارية في قصر نمرود الإمبراطوري، لكنها لا تذكر كم دمّر في محاولته الخطرة، حسب اعترافه قصّ شريحة لا تزيد عن بضع بوصات من الجزء المنحوت من الجدارية، التي تزيد سماكتها على القدم. كان يقسم الشريحة الرخامية ثلاثة أقسام، يرزمها بالصوف بواسطة حبال ويضعها في صناديق تُشحن إلى كليات "ييل" و"يونيون" و"أمهرست" في الولايات المتحدة تكفلت بنفقاتها. وتنقل دوروثي مقاطع من رسالة لجدتها تتحدث فيها عن لقى أثرية التقطتها من قصر نمرود لأفراد أسرتها في أميركا. الختم السومري لشقيقها توم، وتتمنى أن يعجبه، كما أعجبته قدم التمثال المقطوعة التي أرسلتها له, وترسل إلى شقيقها دينيسن يداً تحمل سيفاً عليها كتابات سومرية كثيرة، وهي جزء من منحوتة تضم رأساً أرسل إلى الأسرة أيضاً، ورأس إله آشوري إلى أمها، وأجزاء أخرى من تمثال الإله نفسه إلى باقي أفراد الأسرة.
ولا تعادل الأضرار النازلة بكنوز الحضارة الإنسانية في العراق على امتداد القرنين الماضيين نهب 11 متحفاً عراقياً خلال بضعة أيام ممّا تُسمى "الانتفاضة" في أعقاب حرب عام 1992، و"تحرير" العراق عام 2003. "ينبغي العودة قرونا إلى غزو المغول لبغداد لرؤية نهب بمثل هذا الحجم"، حسب إليانور روبسن، أستاذة الآثار في جامعة أكسفورد. شهادات تحطم القلب يتضمنها آخر كتاب عن الموضوع صدر بالإنجليزية بعنوان "نهب المتحف العراقي ببغداد" The Looting of the Iraq Museum, Baghdad. ساهم في تأليف الكتاب نحو 20 من أبرز علماء الآثار المختصين بالعراق، بينهم علماء عراقيون معروفون على الصعيد العالمي، جورج داوني مدير المتحف العراقي ببغداد، وسلمى الراضي المشهورة بترميم قصر العامرية الأثري في اليمن، وزينب بحراني، أستاذة الآثار في جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة، ولمياء الجيلاني الباحثة في المتحف البريطاني في لندن. يضم الكتاب 190 صورة بالألوان، وهو بمثابة تحية إجلال "لأرض بلاد ما بين النهرين التي شهدت ميلاد الزراعة والكتابة والحكمة والفلسفة، وتطوير مفاهيم القانون والتشريع ومبادئ التجارة