لقد كانت هولندا على مر القرون الماضية نموذجا يحتذى به في العالم للدولة المتسامحة والليبرالية. ويرجع ذلك إلى وجود مجتمع مدني على درجة كبيرة من الانضباط والثقة بالنفس هو فضاء رحب لتداول الأفكار المختلفة. وهي الدولة ذاتها التي وفرت في السابق ملاذاً آمناً لديكارت، وشكلت مركزا لحرية الفكر والصحافة في أوروبا. غير أنه مع الأسف لم تعد هولندا تلك موجودة اليوم. فلقد شكل مقتل المخرج الهولندي ثيو فان جوخ السنة الماضية، الذي أدين قاتله الأسبوع الماضي، ثم اغتيال السياسي بيم فورتيون في 2002 نهاية لحقبة من تاريخ هولندا تميزت ببزوغ مفكرين من أمثال سبينوزا وإراسموس.
ولا يجب أن يفهم من ذلك أن هولندا تحولت فجأة إلى بلد غير متسامح ومعزول عن العالم. ومع ذلك فقد أظهرت تلك الاغتيالات تراكم نتائج عاملين أساسيين هزا دعائم المجتمع المدني الهولندي خلال الأربعين سنة الماضية. يتجلى العامل الأول في الثورة الجنسية والثقافية لسنوات الستينات والسبعينات وتدفق العمال المسلمين في سنوات الازدهار تلك. ففي الوقت الذي تشير فيه أوروبا إلى سنة 1968 المشهودة على أنها انعطافة حاسمة في تاريخها الحديث، لم تتأثر دولة قط بتلك السنة كما تأثرت بها هولندا نفسها. ففي أقل من 15 سنة تعرضت السلطة التقليدية والتراتبية المجتمعية التي ساهمت في ترسيخ الطابع المتسامح للبلد إلى إضعاف شديد. ففي تلك السنوات كان الطلبة والمثقفون يلجأون إلى العصيان المدني ليس لتحقيق هدف معين، ولكن فقط لتقديرهم لذلك الأسلوب في الاحتجاج. ومن ثم بدأ يظهر وجه جديد للتسامح الهولندي تمثل في السماح بتدخين ماريجوانا على أرصفة المقاهي، وقيام ضباط الشرطة بإطالة شعرهم، بالإضافة إلى الحرية الجنسية في أبعد حدودها. أما هؤلاء الذين يفضلون حياة أقل عملاً، فإن الحكومة ضمنت لهم امتيازات اجتماعية جعلت من الكسل حقاً مباحاً.
وقد كان العامل الثاني الذي تزامن مع الثورة الثقافية الهولندية وساهم في تغيير حياتها هو استقدام العديد من الرجال من منطقة الريف بالمغرب للعمل في المجال الصناعي الآخذ في التوسع. غير أن أغلبهم لم يكن يعرف القراءة ولم يكن لديه إلا معرفة أولية باللغة الهولندية. وعندما قدموا لأول مرة إلى البلد تحت إقامات مطولة منحتهم إياها الحكومة وجدوا أنفسهم وسط مجتمع ذي ثقافة عالية، لكنه في نفس الوقت مجتمع منحل يعيش ثورة ثقافية جارفة. والنتيجة أن هؤلاء المهاجرين بدأوا يطرحون السؤال: لماذا يبدو البلد شاذا هكذا؟ غير أن الغريب في الأمر أن هولندا لم تكن كذلك. فتحت رداء التفتح المبالغ فيه والإباحية المتفشية، كان معظم الهولنديين متشبثين بالقيم المسيحية الكالفينية، وهو ما غاب عن أعين المهاجرين.
ولفترة طويلة كان المهاجرون يقومون بأعمال بسيطة لا تتطلب مهارات معينة فعاش الطرفان في وئام. لكن مع الطفرة الاقتصادية لسنوات الثمانينات والتسعينات، حيث اتجه الاقتصاد نحو قطاع التكنولوجيا والخدمات قل الطلب على العمالة غير المدربة. وهكذا لم يعد مرغوبا في المهاجرين المسلمين داخل هولندا، إلا أنه لا أحد طلب منهم المغادرة إلى أوطانهم، بل منحتهم الحكومة امتيازات اجتماعية مهمة وسمحت لهم باستقدام عائلاتهم من المغرب. وقد شكلت تلك العملية ميلاد جيتو عرقي وديني يحيط بمدننا وبلداتنا المزدهرة. وفي ظل هذه التحولات بدأ المجتمع الهولندي الذي كان يتميز بالتسامح يفقد توازنه، خصوصا بعد أن شرع رجال السياسة ووسائل الإعلام في إضعاف القيم الكالفينية التقليدية للمجتمع الذي شكل الأساس الأخلاقي لهذا التسامح. وقد ترافق ذلك مع تنامي الشعور بالاستياء لدى أبناء المهاجرين الذين لم يجدوا ما كانوا ينشدونه من حياة رغيدة. وبدلا من فتح النقاش حول مشاكل الهجرة والقضايا المرتبطة بالدين والثقافة من قبل وسائل الإعلام والسياسيين، تم التركيز فقط على المشاكل الاقتصادية والاجتماعية من منطلق المبادئ التقدمية الهولندية التي تعتبر الكلام عن الهجرة ضربا من الرجعية.
وقد أدى هذا التغييب لمشاكل الهجرة وما يرتبط بها من قضايا الدين والثقافة إلى بروز خطاب متشدد لدى أبناء المهاجرين أسفر في نهاية المطاف عن مقتل ثيو فان جوخ. وبالنظر إلى حياة هذا المخرج المستفز نجد أنه قضى عشرين سنة من حياته في شتم نصف البلد. ولهذا جاءت أفلامه صادمة للآخرين ومقالته لا توقر أحدا بمن فيهم كاتب هذه السطور، حيث تعرضت مرارا لسخريته اللاذعة. ومع ذلك كنت أجد فيه موهبة فذة وروح فكاهة متقدة. أما في السنوات الأخيرة فقد صب اهتمامه على مشاكل الهجرة وعدم تسامح المسلمين. بيد أن المهاجرين المسلمين من الجيل الثاني الذين قنطوا من خيبات الأمل المتلاحقة لم يستسيغوا قط ذلك الجانب المرح من ظاهرة فان جوخ. ولجأ العديد من هؤلاء الشباب إلى الإسلام الراديكالي كطريقة للتعبير عما يعانونه من إحباط واغتراب داخل المجتمع الهولندي رافضين أسلوب الحياة المتسامح. وهذا ما دفع متطرف إسلامي شاب ولد في أمستردام من أبوين مغربيين بإطلاق الرصاص في الشا